Monday, July 11, 2011

عودة الثورات العربية 1

أليكس كالينيكوس


كتب الناقد الماركسي الألماني والتر بنجامين في شتاء 39/1940 نصًا متميزًا تحت عنوان “أطروحات حول فلسفة التاريخ”، هاجم فيه الاعتقاد الشائع وسط اليسار حول حتمية تحقق الاشتراكية نتيجة للتطور التاريخي. وقال “لم يُفسد الطبقة العاملة الألمانية شيئًا بقدر ما أفسدتها فكرة أنها تتحرك في اتجاه التيار.” الثورة ليست نتيجة معينة لتقدم البشرية عبر زمن فارغ متجانس”. بل هي “وثبة نمر إلى الماضي” تحشد ذكريات معاناة الماضي وقهره ضد الطبقة الحاكمة. واختتم بنجامين فكرته بالإشارة إلى التراث اليهودي المسيحي، الذي جاء فيه أن “كل ثانية من الزمن بمثابة بوابة ضيقة قد يمرق منها المسيح”. (1)

وبعبارة أخرى، الثورات ليست نتيجة متوقعة لحركة التاريخ للأمام، بل أنها انفجار مفاجئ غير متوقع، في تاريخ يمثل “كارثة واحدة، يتراكم داخلها الحطام فوق بعضه البعض”.(2) لقد كتب بنجامين هذه الكلمات في لحظة تاريخية كئيبة، “لحظة الظلام في القرن”، حينما بدت معاهدة هتلر وستالين وكأنها رمزًا لموت الآمال الراديكالية كافة. ومع ذلك، تتلاءم الفكرة تماما مع الثورات التي تجتاح أنحاء العالم العربي منذ منتصف ديسمبر. فقد بدت تلك الثورات وكأنها انفجار جاء من العدم؛ انفجار غير متوقع على الإطلاق؛ انفجار نتيجة لغضب استمرت ضغوطه العميقة على مدار عقود. ولن تقتصر نتائج تلك الثورات على مجرد إعادة صياغة الخريطة السياسية في الشرق الأوسط ، بل سوف تتجاوز معانيها التاريخية ذلك بكثير.

وفي المقام الأول، عبَّرت الهبَّات التي حدثت في تونس ومصر وليبيا، والصدى الذي أحدثته في المنطقة، عن عودة غير متوقعة للثورة العربية. ففي الماضي، بدأ اجتياح الثورة العربية للشرق الأوسط ـ حينما كانت الإمبريالية البريطانية والفرنسية لا تزال مهيمنة ـ مع استيلاء حركة الضباط الأحرار في مصر على السلطة عام 1952. وبعد انتصار جمال عبد الناصر في الصراع الداخلي، لم يكتف بالنجاح في مواجهة القوى الاستعمارية، والاستيلاء على معظم أصول الطبقات المصرية المالكة، بل أنه على الصعيد الإقليمي دعا إلى نشر وعي الانتماء إلى أمة واحدة، وتجاوز الحدود السياسية التي تقسم المنطقة إلى دول مختلفة، والتي نتجت عن العهد الاستعماري. وفي 1958، أعلن ناصر الجمهورية العربية المتحدة، وكانت تعني اتحادًا لم يعمر طويلا بين مصر وسوريا. وشن حربًا طويلة بالإنابة في شمال اليمن مع المملكة العربية السعودية، التي كانت في ذلك الحين ـ ومازالت حتى هذه اللحظة ـ قلعة الرجعية العربية. كما لعب تابعوه دورًا نشطًا في الثورة العراقية الكبرى بين 58-1963. وكانت حركة الوحدة العربية الناصرية، التي أسسها الناصريون العرب، ميدانًا لتدريب القيادات الأكثر راديكالية في المقاومة الفلسطينية.

ومُنيت حركة الوحدة العربية الناصرية ـ التي كانت تشهد تراجعًا حقيقيًا ـ بهزيمة ساحقة عندما، انتصرت إسرائيل على مصر ودول عربية أخرى في حرب الأيام الستة في يونيو 1967. وتوفي عبد الناصر كسيرًا بعد ذلك بثلاث سنوات. وتواصل الوعي القومي العربي، وإن كان بأشكال أكثر تدنيًا، من خلال النظم الديكتاتورية البعثية في سوريا والعراق، وبصورة أكثر إيجابية من خلال التضامن مع النضال الفلسطيني. ولكن قدرة الوعي القومي العربي على الاستمرار اتضحت من خلال سرعة انتشار فيروس الثورة من تونس ـ بعد سقوط زين العابدين بن علي في 14 يناير ـ إلى مصر واليمن والبحرين وليبيا. وفي الحقيقة، تأثرت إيران ـ التي تعد بدورها قوة مؤثرة بشكل متزايد في العالم العربي ـ بتلك الثورات، التي قامت بإنعاش الثورة الخضراء. ثم أرسل الحكام الأوتوقراطيون في مجلس التعاون الخليجي قوات إلى البحرين في منتصف مارس/ لوقف مد هذا الفيروس الثوري.

ولكن التاريخ لا يعيد نفسه. لقد سعت الوحدة العربية التي دعا إليها ناصر إلى توحيد العالم العربي ضد الإمبريالية الغربية، وبرجوازية القطاع الخاص العربية، وملاك الأراضي. وتم هذا على خلفية تحركات جماهيرية ضخمة في مصر والعراق في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، حيث دفعت الأنظمة العميلة لبريطانيا تلك البلدان إلى ما بدا أنه أزمتها الأخيرة. لكنه كان مشروعًا من أعلى، إذ عمل الضباط الأحرار، وناصر شخصيًا، على الاحتفاظ بالسيطرة بشكل متزايد على القوى الشعبية، والتلاعب بها، ومحاولة تقسيمها وقمعها بقسوة. وفي مصر على سبيل المثال، تضمنت هذه القوى الأخوان المسلمين والحركة الشيوعية (3). وعلى عكس هذا، كانت الثورة العربية في 2011 تمردات شعبية من أسفل. وكما يردد المعلقون ـ إلى حدود مبالغ فيها أحيانًا ـ، لم يتبع هؤلاء حزبًا أو حركة سياسية، وإنما حركتهم طموحات ديمقراطية تجسدت في أشكال التنظيم الذاتي التي ظهرت بسرعة في كل مواقع النضال.

إننا نشهد تجديدًا في الشكل السياسي التقليدي للثورة. فكثيرًا ما زعمت النظريات والشخصيات السياسية ـ على مدى عشرين عاما ـ أن الثورة انتهت، سواء بسبب الانتصار النهائي للرأسمالية عام 1989، أو الانتقال إلى حقبة “ما بعد الحداثة”. وبدا في مرحلة من المراحل أنه لا سبيل لعودة الثورات إلى الظهور، إلا إذا قللت من طموحها، واتخذت شكل “الثورات الملونة” التي تحل فيها عصابة من المستبدين محل عصابة أخرى، تحت لافتة “الديمقراطية” وبدعم مادي ومعنوي كبير من واشنطون.

وبالرغم من الحديث المتواصل حول دور الفيسبوك وتويتر في الانتفاضات العربية (وهي فكرة فندها جوني جونز في موقع آخر من هذا النشرة)، فإن الأمر العجيب هو مدى تشابه الثورة في تونس ومصر مع النموذج الذي تأسس لأول مرة أثناء الثورة الإنجليزية في أربعينيات القرن السابع عشر، والثورة الفرنسية العظمى في تسعينيات القرن الثامن عشر ـ بمعنى حشود جماهيرية، وانقسام النخبة في القمة، ونزاعات على الولاء داخل القوات المسلحة، ونزاعات من أجل تحديد السمات السياسية والاقتصادية للأنظمة التي قد تخلف النظام القائم، وكذلك إمكانية وجود حركات أكثر راديكالية من أسفل. وفي ليبيا وقت كتابة هذا المقال، نرى الوجهة الأساسية لمعمر القذافي والثوار المناهضين له، في محاولة كل طرف جمع عدد كاف من المحاربين والأسلحة لتحقيق نصر ساحق على الطرف الآخر، الأمر الذي أدى إلى اندلاع حرب أهلية ما تزال نتيجتها غير مؤكدة، وهو ما يُستخدم الآن في تبرير التدخل الإمبريالي الأخير في العالم الإسلامي. وفي كل الأحوال، فقد تبيَّن أن الثورة حقيقة تحدث في القرن الواحد والعشرين.

الأزمة الاقتصادية تطلب ضحايا سياسيين

بالطبع، لا يوجد أسهل من الزعم بأن الثورة العربية هبطت من السماء. وبالنظر إلى الحالة الأهم، وهي مصر، فإنه من خلال دراسة جماعية نُشرت قبل سنتين لمجموعة باحثين من اليسار الراديكالي ـ منهم عدد من المساهمين في هذه المجلة ـ نجد تناقضات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وصعود لحركات المقاومة، وهي أمور كلها دفعت نظام حسني مبارك إلى “لحظة التغيير”.(4) وكما أكد ماركس نفسه “من الضروري أن نفرق دائما بين التحول المادي للظروف الاقتصادية للإنتاج، التي يمكن تحديدها بدقة تماثل دقة العلوم الطبيعية، وبين الأشكال القانونية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية ـ في كلمة واحدة “الأيديولوجية” ـ التي يصبح الإنسان بواسطتها واعيًا بهذا الصراع ومشاركًا فيه”.(5) إن تحديد التناقضات البنيوية المتسببة في زعزعة استقرار مجتمع معين أمر مختلف تماما عن تحديد متى وكيف سوف تتفاعل هذه التناقضات وتؤدي إلى انفجار سياسي.

ولكننا نتعامل هنا مع موجة ثورات عابرة للقومية، ومن ثم يصعب أن نضع يدنا ببساطة على العوامل المفجرة لكل منها على المستوى القومي. وفي واقع الأمر، يمكن للأزمة الاقتصادية والسياسية العالمية أن تكون البداية الأفضل عن تحليل هذه الثورات. ذلك أنه في العام الماضي، كتبت سوزان واتكينز، المحررة في نيو ليفت ريفيو، “ربما كان أكثر ما يلفت النظر في أزمة 2008، هو أنها جمعت حتى الآن بين الاضطراب الاقتصادي والركود السياسي”.(6) والآن، تبدو عبارة “حتى الآن” جزءًا أساسيا في هذه الجملة. وكما أشرنا في ردنا عليها، لابد أن يُنظر إلى أزمة بنيوية طاحنة، مثل الأزمة الحالية، باعتبارها ظاهرة ممتدة، تمر عبر سلسلة من المراحل المختلفة(7(.

وعبر باحثان ماركسيان في الاقتصاد مؤخرًا عن وجهة نظر مشابهة، مع اختلاف تفسيرهما للأزمة عما تم نشره في هذه المجلة، وهما جيرارد دومينيل و دومينك ليفي:

الملمح المشترك في الأزمات البنيوية هو تعدد أوجهها وما تستغرقه من زمن. على سبيل المثال، يصعب تحديد المدة التي استغرقها الكساد الكبير بدقة، أو كم من الوقت كان سيستمر إذا لم يساعد الاستعداد للحرب على تعزيز الاقتصاد. انهار الاقتصاد الكلي في الكساد نفسه منذ 1929 إلى 1933. وحدث انتعاش تدريجي حتى 1937، حينما بدأ الناتج يتراجع من جديد. إذا عمل اقتصاد الحرب على تغيير مسار الأحداث تماما… وفي أغلب الظن سيحدث هذا في الأزمة الحالية. بمجرد أن تسود معدلات النمو الإيجابية في أعقاب انخفاض الناتج، سيمثل هذا مؤشرا على مرحلة جديدة، ولكنه بالتأكيد ليس حلا للتوترات التي أدت إلى الأزمة. سيكون هناك كثير من الأموار التي مازال هناك ضرورة للقيام بها. هل ستكون معدلات النمو الإيجابية عند المستوى الملائم؟ متى يعالج الخلل في الاقتصاد الأمريكي؟ كيف سيتم سداد ديون الحكومة؟ هل يدعم الدولار الضغوط الدولية؟ وسيكون تأسيس مسار جديد ودائم للأحداث عملية طويلة وشاقة.(8(

وكما قلنا في السابق، ” تشكل الأزمة الاقتصادية الممتدة ضغطًا على البني السياسية البرجوازية، وتكشف عن تصدعاتها”.(9) وهذا على وجه التحديد هو ما أحدثته الثورات العربية. فقد كانت التصدعات اقتصادية وسياسية في آن واحد. وكانت كلٌ من مصر في ظل مبارك وتونس في ظل بن علي ابنًا بارًا لليبرالية الجديدة في المنطقة. ولم يتمكن البنك الدولي، في تقرير تونس ـ الصادر ضمن التقارير الموجزة التي ينشرها البنك عن البلدان ـ من إخفاء حماسه تجاه هذا البلد:

لقد حققت تونس تقدمًا ملحوظا في النمو العادل، من خلال محاربة الفقر وتحقيق مؤشرات اجتماعية جيدة. لقد حافظت على متوسط نمو بمعدل 5% خلال 20 عامًا، مع زيادة مستقرة في دخل الفرد، وزيادة مصاحبة لذلك في الخدمات الاجتماعية المُقدمة للكان، فصار مستوى الفقر بها عند 7%، وهو واحد من أقل مستويات الفقر بالمنطقة.(10(

وبالرغم من أن البنك الدولي بدا أكثر اعتدالاً في مديح نظام مبارك، فإنه ظل معترًفا ” بتحقيقه لمسار راسخ، كأحد أبطال الإصلاح الاقتصادي في الشرق الاوسط وشمال إفريقيا”.(11) وفي الواقع، يحق لمصر إدعاء ريادة الليبرالية الجديدة في جنوب العالم. ففي 1974، أعلن الرئيس أنور السادات سياسة انفتاح الاقتصاد على الاستثمار الاجنبي والتجارة الدولية، وكان هذا علامة على القطع الجذري مع رأسمالية العهد الناصري الموجهة من الدولة.(12) ودفع مبارك تلك السياسة قدمًاً، فأبرم في 1991 اتفاق برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي مع المؤسسات المالية الدولية. وكان أحد بنوده الرئيسية قانون 96 لسنة 1991، الذي ألغى الحقوق الممنوحة للمستأجرين في ظل الإصلاح الزراعي الذي طبقه الضباط الأحرار عام 1952، وأتاح هذا للملاك القدماء وورثتهم العودة وتجريد أسر الفلاحين من أراضيها. (13)

وبصرف النظر عن حديث نظام مبارك خلال التسعينيات حول أن مصر “نمر على النيل”، إلا أن الاقتصاد المصري والتونسي لم يأتيا “بمعجزة” في ظل الليبرالية الجديدة، وظلا معتمدين بشدة على الحصول على العملات الأجنبية من السياحة وصناعة المنسوجات ـ التي تعاني من ضعف وضعها في مواجهة المنافسة الصينية. وبالرغم من تحقيق هذا النظام بعض النمو، لم يجلب التوجه الليبرالي إلا استقطابًا اقتصاديًا واجتماعيًا شديد الحدة، مما مثَّل ضغوطًا على البنى الكوربوراتية (أي تلك القائمة على إدماج الدولة للمؤسسات) التي أُرسيت في ظل ناصر، ونظيره التونسي الحبيب بورقيبة. وترى آن الكسندر أنه في مصر تحت حكم ناصر:

“قُدم للعمال عقد اجتماعي، في مقابل تنازلهم عن الاستقلال السياسي. ووفقًا لهذا العقد، يصبح بإمكان العمال الحصول على بعض المكاسب، مثل الاستفادة من دعم الإسكان والتعليم والخدمات الاجتماعية الأخرى، والأمان الوظيفي النسبي. كما خلق الخطاب الناصري صورة مثالية للعمال، وخاصة في مرحلته الأخيرة، لمساهمتهم في التنمية الوطنية. ولكن الدولة الناصرية أيضا حطمت منظمات العمال المستقلة، وأسست بدلاً منها اتحادًا رسميًا للنقابات العمالية تحت الإشراف الحكومي.(14)

وتستكمل ألكسندر وجهة نظرها حول الإصلاحات في التسعينيات، بعد القضاء على النظام الناصري، فتقول إنه قد تزايدت مستويات الفقر والظلم الاجتماعي والبطالة. فوفقًا لمنظمة العمل الدولية، عاش 14% من المصريين عام 2010 تحت خط الفقر العالمي ـ دولارين في اليوم.(15) كما قدر أحمد النجار في 2009 أن “العدد الإجمالي للعاطلين عن العمل كان 7.9 مليون، وأن النسبة الحقيقية للبطالة كانت حينها 26.3%، ووصل البعض إلى أن المعدل في المجموعة العمرية من 19 إلى 29 عامًا يزيد على ثلاثة أضعاف هذا الرقم”.(16) وأشار إلى أن تزايد البطالة، وخاصة بين الشباب، يعد مشكلة إقليمية. بل أنه حتى بحث البنك الدولي المفصل تعارض مع العناوين المتفائلة. واعترف أحد التقارير الصادر في تاريخ مثير للانتباه، 15 يناير 2011, أي اليوم السابق على سقوط بن علي بأنه

“يعتبر معدل البطالة بين الشباب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، البالغ 25%، الأعلى في العالم. ولكن تلك الإحصائيات تُعالج بصورة منعزلة، فلا تدل على الحجم الحقيقي للمشكلة.

وكشف باحثو البنك الدولي أن الرقم الفعلي لمن هم بلا عمل في المرحلة العمرية مابين 15 إلى 29 سنة في المنطقة ربما يرتفع عن ذلك كثيرا. ذلك أن الإحصائيات لا يدخل فيها أشخاص كثيرون، رغم أنهم لا يدرسون ولا يعملون، وذلك لأنهم لم يبحثوا عن عمل.

يعاني الشباب الذكور في الحضر، على نحو خاص، من وضع متردي في سوق العمل، إذ يشتغل كثير من العاطلين منهم في أعمال غير رسمية وغير مسجلة في الدفاتر الحكومية، أو لا يمارسون أن نوع من العمل على الإطلاق.”(17)

ومن ناحية أخرى، كدست طبقة محدودة من ذوي الثراء الفاحش الثروات الضخمة، وتمتعت بنفوذ شديد. إذ كتب جويل بنين عن مصر أن “حاملي حقائب الوزارات الاقتصادية” في حكومة أحمد نظيف، المعين رئيسا للوزراء في 2004، “كانوا من الحاصلين على دكتوراة من الغرب، والتابعين لحاشية جمال مبارك، ابن الرئيس. وعمل هؤلاء على الترويج للموجة الثانية من الخصخصة، ووضع قوانين خاصة بالأجراءات الأخرى لتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، مثل إلغاء التعريفة الجمركية على آلات صناعة المنسوجات وقطع الغيار الخاصة بها”.(18) وقد أجبرت ثورة 25 يناير حتى نيويورك تايمز على الاعتراف بالطبيعة الحقيقية لهذه الليبرالية الجديدة.

“على الورق، حولت التغيرات بالكامل تقريبًا، نظامًا اقتصاديًا تسيطر عليه الدولة إلى آخر محكومًا أغلبه من خلال السوق الحرة. ورغم ذلك، فما ظهر عمليًا ـ وفقًا لآراء الخبراء المصريين والأجانب ـ كان شكلاً من رأسمالية المحسوبية. وعملت البنوك التابعة للدولة وكأنها صانعة أباطرة، فتوسعت في تقديم القروض للعائلات المؤيدة للحكومة، بينما منعت الائتمان عن رجال أعمال قادرين على الاستمرار، ولكنهم ليست لديهم صلات قرابة مع اليمين السياسي.

ووفقا لأحمد النجار، مدير وحدة الدراسات الاقتصادية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، باع مسئوليو الحكومة الأراضي المملوكة للدولة بأسعار منخفضة للعائلات المرتبطة ببعضها سياسيًا. وسمحوا أيضا لتكتلات الشركات الأجنبية بشراء الشركات المملوكة للدولة بمبالغ صغيرة، مقابل دفع رشاوى.

وفي الوقت نفسه، كانت الحكومة تلزم المستثمرين الأجانب بتأسيس مشاريع مشتركة مع الشركات المصرية. وشكلت العائلات ذات الصلات الوثيقة مع الحزب الحاكم النصف المصري من المشاريع المشتركة المربحة.”(19)

وأصبح أحمد عز، اعتمادًا على صداقته لجمال مبارك بشكل خاص، رمزًا لرأسمالية المحسوبية المصرية، فتمكن من شراء شركة الصلب المخصخصة بثمن بخس، وانتهى به الأمر إلى السيطرة على ثلثي سوق الحديد المصري. كما أصبح أيضا عضوًا في البرلمان، وأدار حملة بلطجية الحزب الوطني الديمقراطي لتزوير الانتخابات التشريعية بفجاجة في نوفمبر 2010. وكان الطرابلسية المقابل لعز في تونس، وهم أصهار بن علي الذين استخدموا صلاتهم العائلية في تحقيق ثراء فاحش. ووفقا لمنظمة الشفافية العالمية، سيطر بن علي والطرابلسية فيما بينهم على ما يتراوح من 30% إلى 40% من الاقتصاد التونسي، أو حوالي 10 مليارات دولار. واتُهمت ليلى الطرابلسي، زوجة الرئيس السابق، بالفرار إلى جدة ومعها 1.5 طن من السبائك الذهبية في حقائبها.

وهكذا، لم تعن الليبرالية الجديدة في الشرق الأوسط انفصال السلطة الاقتصادية عن السياسية، كما تتضمن الفكرة المجردة للسوق الحر، بل انصهارهما معا. ولم يعد هناك رأسمالية دولة. فقد سمحت العلاقات السياسية لمن هم في القمة بتكديس ثروة خاصة مهولة. وانعكس ذلك بشكل مباشر في إحساس بالظلم الاقتصادي والاجتماعي تجاه شاغلي قمة النظام، حيث أصبح الفساد الذي عم النخب باديًا للعيان

.

نقلا عن موقع المناضلة


1 comment:

حسن ارابيسك said...

الحقيقة مقال رائع بمعنى الكلمة وبه من التحليل والتصنيف والفرز والدلالات المسندة الى حقائق كانت شاهد عيان
مرة ثانية شكرا جزيلاً
تحياتي