Monday, July 18, 2011

انجلس والثورة

إن الثورة هي دون شك سلطة ما بعدها سلطة، الثورة هي عمل يفرض به قسم من السكان إرادته على القسم الآخر بالبنادق، بالحراب، بالمدافع، أي بوسائل لا يعلو سلطانها سلطانا. ويأتي على الحزب الغالب أن يحافظ بالضرورة على سيادته عن طريق الخوف الذي توجه أسلحته للرجعيين. فلو لم تستند كومونة باريس إلى سلطان الشعب المسلح ضد البرجوازية فهل كان بإمكانها أن تصمد أكثر من يوم واحد ؟ وهلا يحق لنا أن نلومها، بالعكس،
لأنها لم تلجأ لهذا السلطان إلاّ قليلا جداً ؟"


/ انجلس

Monday, July 11, 2011

عودة الثورات العربية 1

أليكس كالينيكوس


كتب الناقد الماركسي الألماني والتر بنجامين في شتاء 39/1940 نصًا متميزًا تحت عنوان “أطروحات حول فلسفة التاريخ”، هاجم فيه الاعتقاد الشائع وسط اليسار حول حتمية تحقق الاشتراكية نتيجة للتطور التاريخي. وقال “لم يُفسد الطبقة العاملة الألمانية شيئًا بقدر ما أفسدتها فكرة أنها تتحرك في اتجاه التيار.” الثورة ليست نتيجة معينة لتقدم البشرية عبر زمن فارغ متجانس”. بل هي “وثبة نمر إلى الماضي” تحشد ذكريات معاناة الماضي وقهره ضد الطبقة الحاكمة. واختتم بنجامين فكرته بالإشارة إلى التراث اليهودي المسيحي، الذي جاء فيه أن “كل ثانية من الزمن بمثابة بوابة ضيقة قد يمرق منها المسيح”. (1)

وبعبارة أخرى، الثورات ليست نتيجة متوقعة لحركة التاريخ للأمام، بل أنها انفجار مفاجئ غير متوقع، في تاريخ يمثل “كارثة واحدة، يتراكم داخلها الحطام فوق بعضه البعض”.(2) لقد كتب بنجامين هذه الكلمات في لحظة تاريخية كئيبة، “لحظة الظلام في القرن”، حينما بدت معاهدة هتلر وستالين وكأنها رمزًا لموت الآمال الراديكالية كافة. ومع ذلك، تتلاءم الفكرة تماما مع الثورات التي تجتاح أنحاء العالم العربي منذ منتصف ديسمبر. فقد بدت تلك الثورات وكأنها انفجار جاء من العدم؛ انفجار غير متوقع على الإطلاق؛ انفجار نتيجة لغضب استمرت ضغوطه العميقة على مدار عقود. ولن تقتصر نتائج تلك الثورات على مجرد إعادة صياغة الخريطة السياسية في الشرق الأوسط ، بل سوف تتجاوز معانيها التاريخية ذلك بكثير.

وفي المقام الأول، عبَّرت الهبَّات التي حدثت في تونس ومصر وليبيا، والصدى الذي أحدثته في المنطقة، عن عودة غير متوقعة للثورة العربية. ففي الماضي، بدأ اجتياح الثورة العربية للشرق الأوسط ـ حينما كانت الإمبريالية البريطانية والفرنسية لا تزال مهيمنة ـ مع استيلاء حركة الضباط الأحرار في مصر على السلطة عام 1952. وبعد انتصار جمال عبد الناصر في الصراع الداخلي، لم يكتف بالنجاح في مواجهة القوى الاستعمارية، والاستيلاء على معظم أصول الطبقات المصرية المالكة، بل أنه على الصعيد الإقليمي دعا إلى نشر وعي الانتماء إلى أمة واحدة، وتجاوز الحدود السياسية التي تقسم المنطقة إلى دول مختلفة، والتي نتجت عن العهد الاستعماري. وفي 1958، أعلن ناصر الجمهورية العربية المتحدة، وكانت تعني اتحادًا لم يعمر طويلا بين مصر وسوريا. وشن حربًا طويلة بالإنابة في شمال اليمن مع المملكة العربية السعودية، التي كانت في ذلك الحين ـ ومازالت حتى هذه اللحظة ـ قلعة الرجعية العربية. كما لعب تابعوه دورًا نشطًا في الثورة العراقية الكبرى بين 58-1963. وكانت حركة الوحدة العربية الناصرية، التي أسسها الناصريون العرب، ميدانًا لتدريب القيادات الأكثر راديكالية في المقاومة الفلسطينية.

ومُنيت حركة الوحدة العربية الناصرية ـ التي كانت تشهد تراجعًا حقيقيًا ـ بهزيمة ساحقة عندما، انتصرت إسرائيل على مصر ودول عربية أخرى في حرب الأيام الستة في يونيو 1967. وتوفي عبد الناصر كسيرًا بعد ذلك بثلاث سنوات. وتواصل الوعي القومي العربي، وإن كان بأشكال أكثر تدنيًا، من خلال النظم الديكتاتورية البعثية في سوريا والعراق، وبصورة أكثر إيجابية من خلال التضامن مع النضال الفلسطيني. ولكن قدرة الوعي القومي العربي على الاستمرار اتضحت من خلال سرعة انتشار فيروس الثورة من تونس ـ بعد سقوط زين العابدين بن علي في 14 يناير ـ إلى مصر واليمن والبحرين وليبيا. وفي الحقيقة، تأثرت إيران ـ التي تعد بدورها قوة مؤثرة بشكل متزايد في العالم العربي ـ بتلك الثورات، التي قامت بإنعاش الثورة الخضراء. ثم أرسل الحكام الأوتوقراطيون في مجلس التعاون الخليجي قوات إلى البحرين في منتصف مارس/ لوقف مد هذا الفيروس الثوري.

ولكن التاريخ لا يعيد نفسه. لقد سعت الوحدة العربية التي دعا إليها ناصر إلى توحيد العالم العربي ضد الإمبريالية الغربية، وبرجوازية القطاع الخاص العربية، وملاك الأراضي. وتم هذا على خلفية تحركات جماهيرية ضخمة في مصر والعراق في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، حيث دفعت الأنظمة العميلة لبريطانيا تلك البلدان إلى ما بدا أنه أزمتها الأخيرة. لكنه كان مشروعًا من أعلى، إذ عمل الضباط الأحرار، وناصر شخصيًا، على الاحتفاظ بالسيطرة بشكل متزايد على القوى الشعبية، والتلاعب بها، ومحاولة تقسيمها وقمعها بقسوة. وفي مصر على سبيل المثال، تضمنت هذه القوى الأخوان المسلمين والحركة الشيوعية (3). وعلى عكس هذا، كانت الثورة العربية في 2011 تمردات شعبية من أسفل. وكما يردد المعلقون ـ إلى حدود مبالغ فيها أحيانًا ـ، لم يتبع هؤلاء حزبًا أو حركة سياسية، وإنما حركتهم طموحات ديمقراطية تجسدت في أشكال التنظيم الذاتي التي ظهرت بسرعة في كل مواقع النضال.

إننا نشهد تجديدًا في الشكل السياسي التقليدي للثورة. فكثيرًا ما زعمت النظريات والشخصيات السياسية ـ على مدى عشرين عاما ـ أن الثورة انتهت، سواء بسبب الانتصار النهائي للرأسمالية عام 1989، أو الانتقال إلى حقبة “ما بعد الحداثة”. وبدا في مرحلة من المراحل أنه لا سبيل لعودة الثورات إلى الظهور، إلا إذا قللت من طموحها، واتخذت شكل “الثورات الملونة” التي تحل فيها عصابة من المستبدين محل عصابة أخرى، تحت لافتة “الديمقراطية” وبدعم مادي ومعنوي كبير من واشنطون.

وبالرغم من الحديث المتواصل حول دور الفيسبوك وتويتر في الانتفاضات العربية (وهي فكرة فندها جوني جونز في موقع آخر من هذا النشرة)، فإن الأمر العجيب هو مدى تشابه الثورة في تونس ومصر مع النموذج الذي تأسس لأول مرة أثناء الثورة الإنجليزية في أربعينيات القرن السابع عشر، والثورة الفرنسية العظمى في تسعينيات القرن الثامن عشر ـ بمعنى حشود جماهيرية، وانقسام النخبة في القمة، ونزاعات على الولاء داخل القوات المسلحة، ونزاعات من أجل تحديد السمات السياسية والاقتصادية للأنظمة التي قد تخلف النظام القائم، وكذلك إمكانية وجود حركات أكثر راديكالية من أسفل. وفي ليبيا وقت كتابة هذا المقال، نرى الوجهة الأساسية لمعمر القذافي والثوار المناهضين له، في محاولة كل طرف جمع عدد كاف من المحاربين والأسلحة لتحقيق نصر ساحق على الطرف الآخر، الأمر الذي أدى إلى اندلاع حرب أهلية ما تزال نتيجتها غير مؤكدة، وهو ما يُستخدم الآن في تبرير التدخل الإمبريالي الأخير في العالم الإسلامي. وفي كل الأحوال، فقد تبيَّن أن الثورة حقيقة تحدث في القرن الواحد والعشرين.

الأزمة الاقتصادية تطلب ضحايا سياسيين

بالطبع، لا يوجد أسهل من الزعم بأن الثورة العربية هبطت من السماء. وبالنظر إلى الحالة الأهم، وهي مصر، فإنه من خلال دراسة جماعية نُشرت قبل سنتين لمجموعة باحثين من اليسار الراديكالي ـ منهم عدد من المساهمين في هذه المجلة ـ نجد تناقضات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وصعود لحركات المقاومة، وهي أمور كلها دفعت نظام حسني مبارك إلى “لحظة التغيير”.(4) وكما أكد ماركس نفسه “من الضروري أن نفرق دائما بين التحول المادي للظروف الاقتصادية للإنتاج، التي يمكن تحديدها بدقة تماثل دقة العلوم الطبيعية، وبين الأشكال القانونية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية ـ في كلمة واحدة “الأيديولوجية” ـ التي يصبح الإنسان بواسطتها واعيًا بهذا الصراع ومشاركًا فيه”.(5) إن تحديد التناقضات البنيوية المتسببة في زعزعة استقرار مجتمع معين أمر مختلف تماما عن تحديد متى وكيف سوف تتفاعل هذه التناقضات وتؤدي إلى انفجار سياسي.

ولكننا نتعامل هنا مع موجة ثورات عابرة للقومية، ومن ثم يصعب أن نضع يدنا ببساطة على العوامل المفجرة لكل منها على المستوى القومي. وفي واقع الأمر، يمكن للأزمة الاقتصادية والسياسية العالمية أن تكون البداية الأفضل عن تحليل هذه الثورات. ذلك أنه في العام الماضي، كتبت سوزان واتكينز، المحررة في نيو ليفت ريفيو، “ربما كان أكثر ما يلفت النظر في أزمة 2008، هو أنها جمعت حتى الآن بين الاضطراب الاقتصادي والركود السياسي”.(6) والآن، تبدو عبارة “حتى الآن” جزءًا أساسيا في هذه الجملة. وكما أشرنا في ردنا عليها، لابد أن يُنظر إلى أزمة بنيوية طاحنة، مثل الأزمة الحالية، باعتبارها ظاهرة ممتدة، تمر عبر سلسلة من المراحل المختلفة(7(.

وعبر باحثان ماركسيان في الاقتصاد مؤخرًا عن وجهة نظر مشابهة، مع اختلاف تفسيرهما للأزمة عما تم نشره في هذه المجلة، وهما جيرارد دومينيل و دومينك ليفي:

الملمح المشترك في الأزمات البنيوية هو تعدد أوجهها وما تستغرقه من زمن. على سبيل المثال، يصعب تحديد المدة التي استغرقها الكساد الكبير بدقة، أو كم من الوقت كان سيستمر إذا لم يساعد الاستعداد للحرب على تعزيز الاقتصاد. انهار الاقتصاد الكلي في الكساد نفسه منذ 1929 إلى 1933. وحدث انتعاش تدريجي حتى 1937، حينما بدأ الناتج يتراجع من جديد. إذا عمل اقتصاد الحرب على تغيير مسار الأحداث تماما… وفي أغلب الظن سيحدث هذا في الأزمة الحالية. بمجرد أن تسود معدلات النمو الإيجابية في أعقاب انخفاض الناتج، سيمثل هذا مؤشرا على مرحلة جديدة، ولكنه بالتأكيد ليس حلا للتوترات التي أدت إلى الأزمة. سيكون هناك كثير من الأموار التي مازال هناك ضرورة للقيام بها. هل ستكون معدلات النمو الإيجابية عند المستوى الملائم؟ متى يعالج الخلل في الاقتصاد الأمريكي؟ كيف سيتم سداد ديون الحكومة؟ هل يدعم الدولار الضغوط الدولية؟ وسيكون تأسيس مسار جديد ودائم للأحداث عملية طويلة وشاقة.(8(

وكما قلنا في السابق، ” تشكل الأزمة الاقتصادية الممتدة ضغطًا على البني السياسية البرجوازية، وتكشف عن تصدعاتها”.(9) وهذا على وجه التحديد هو ما أحدثته الثورات العربية. فقد كانت التصدعات اقتصادية وسياسية في آن واحد. وكانت كلٌ من مصر في ظل مبارك وتونس في ظل بن علي ابنًا بارًا لليبرالية الجديدة في المنطقة. ولم يتمكن البنك الدولي، في تقرير تونس ـ الصادر ضمن التقارير الموجزة التي ينشرها البنك عن البلدان ـ من إخفاء حماسه تجاه هذا البلد:

لقد حققت تونس تقدمًا ملحوظا في النمو العادل، من خلال محاربة الفقر وتحقيق مؤشرات اجتماعية جيدة. لقد حافظت على متوسط نمو بمعدل 5% خلال 20 عامًا، مع زيادة مستقرة في دخل الفرد، وزيادة مصاحبة لذلك في الخدمات الاجتماعية المُقدمة للكان، فصار مستوى الفقر بها عند 7%، وهو واحد من أقل مستويات الفقر بالمنطقة.(10(

وبالرغم من أن البنك الدولي بدا أكثر اعتدالاً في مديح نظام مبارك، فإنه ظل معترًفا ” بتحقيقه لمسار راسخ، كأحد أبطال الإصلاح الاقتصادي في الشرق الاوسط وشمال إفريقيا”.(11) وفي الواقع، يحق لمصر إدعاء ريادة الليبرالية الجديدة في جنوب العالم. ففي 1974، أعلن الرئيس أنور السادات سياسة انفتاح الاقتصاد على الاستثمار الاجنبي والتجارة الدولية، وكان هذا علامة على القطع الجذري مع رأسمالية العهد الناصري الموجهة من الدولة.(12) ودفع مبارك تلك السياسة قدمًاً، فأبرم في 1991 اتفاق برنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي مع المؤسسات المالية الدولية. وكان أحد بنوده الرئيسية قانون 96 لسنة 1991، الذي ألغى الحقوق الممنوحة للمستأجرين في ظل الإصلاح الزراعي الذي طبقه الضباط الأحرار عام 1952، وأتاح هذا للملاك القدماء وورثتهم العودة وتجريد أسر الفلاحين من أراضيها. (13)

وبصرف النظر عن حديث نظام مبارك خلال التسعينيات حول أن مصر “نمر على النيل”، إلا أن الاقتصاد المصري والتونسي لم يأتيا “بمعجزة” في ظل الليبرالية الجديدة، وظلا معتمدين بشدة على الحصول على العملات الأجنبية من السياحة وصناعة المنسوجات ـ التي تعاني من ضعف وضعها في مواجهة المنافسة الصينية. وبالرغم من تحقيق هذا النظام بعض النمو، لم يجلب التوجه الليبرالي إلا استقطابًا اقتصاديًا واجتماعيًا شديد الحدة، مما مثَّل ضغوطًا على البنى الكوربوراتية (أي تلك القائمة على إدماج الدولة للمؤسسات) التي أُرسيت في ظل ناصر، ونظيره التونسي الحبيب بورقيبة. وترى آن الكسندر أنه في مصر تحت حكم ناصر:

“قُدم للعمال عقد اجتماعي، في مقابل تنازلهم عن الاستقلال السياسي. ووفقًا لهذا العقد، يصبح بإمكان العمال الحصول على بعض المكاسب، مثل الاستفادة من دعم الإسكان والتعليم والخدمات الاجتماعية الأخرى، والأمان الوظيفي النسبي. كما خلق الخطاب الناصري صورة مثالية للعمال، وخاصة في مرحلته الأخيرة، لمساهمتهم في التنمية الوطنية. ولكن الدولة الناصرية أيضا حطمت منظمات العمال المستقلة، وأسست بدلاً منها اتحادًا رسميًا للنقابات العمالية تحت الإشراف الحكومي.(14)

وتستكمل ألكسندر وجهة نظرها حول الإصلاحات في التسعينيات، بعد القضاء على النظام الناصري، فتقول إنه قد تزايدت مستويات الفقر والظلم الاجتماعي والبطالة. فوفقًا لمنظمة العمل الدولية، عاش 14% من المصريين عام 2010 تحت خط الفقر العالمي ـ دولارين في اليوم.(15) كما قدر أحمد النجار في 2009 أن “العدد الإجمالي للعاطلين عن العمل كان 7.9 مليون، وأن النسبة الحقيقية للبطالة كانت حينها 26.3%، ووصل البعض إلى أن المعدل في المجموعة العمرية من 19 إلى 29 عامًا يزيد على ثلاثة أضعاف هذا الرقم”.(16) وأشار إلى أن تزايد البطالة، وخاصة بين الشباب، يعد مشكلة إقليمية. بل أنه حتى بحث البنك الدولي المفصل تعارض مع العناوين المتفائلة. واعترف أحد التقارير الصادر في تاريخ مثير للانتباه، 15 يناير 2011, أي اليوم السابق على سقوط بن علي بأنه

“يعتبر معدل البطالة بين الشباب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، البالغ 25%، الأعلى في العالم. ولكن تلك الإحصائيات تُعالج بصورة منعزلة، فلا تدل على الحجم الحقيقي للمشكلة.

وكشف باحثو البنك الدولي أن الرقم الفعلي لمن هم بلا عمل في المرحلة العمرية مابين 15 إلى 29 سنة في المنطقة ربما يرتفع عن ذلك كثيرا. ذلك أن الإحصائيات لا يدخل فيها أشخاص كثيرون، رغم أنهم لا يدرسون ولا يعملون، وذلك لأنهم لم يبحثوا عن عمل.

يعاني الشباب الذكور في الحضر، على نحو خاص، من وضع متردي في سوق العمل، إذ يشتغل كثير من العاطلين منهم في أعمال غير رسمية وغير مسجلة في الدفاتر الحكومية، أو لا يمارسون أن نوع من العمل على الإطلاق.”(17)

ومن ناحية أخرى، كدست طبقة محدودة من ذوي الثراء الفاحش الثروات الضخمة، وتمتعت بنفوذ شديد. إذ كتب جويل بنين عن مصر أن “حاملي حقائب الوزارات الاقتصادية” في حكومة أحمد نظيف، المعين رئيسا للوزراء في 2004، “كانوا من الحاصلين على دكتوراة من الغرب، والتابعين لحاشية جمال مبارك، ابن الرئيس. وعمل هؤلاء على الترويج للموجة الثانية من الخصخصة، ووضع قوانين خاصة بالأجراءات الأخرى لتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، مثل إلغاء التعريفة الجمركية على آلات صناعة المنسوجات وقطع الغيار الخاصة بها”.(18) وقد أجبرت ثورة 25 يناير حتى نيويورك تايمز على الاعتراف بالطبيعة الحقيقية لهذه الليبرالية الجديدة.

“على الورق، حولت التغيرات بالكامل تقريبًا، نظامًا اقتصاديًا تسيطر عليه الدولة إلى آخر محكومًا أغلبه من خلال السوق الحرة. ورغم ذلك، فما ظهر عمليًا ـ وفقًا لآراء الخبراء المصريين والأجانب ـ كان شكلاً من رأسمالية المحسوبية. وعملت البنوك التابعة للدولة وكأنها صانعة أباطرة، فتوسعت في تقديم القروض للعائلات المؤيدة للحكومة، بينما منعت الائتمان عن رجال أعمال قادرين على الاستمرار، ولكنهم ليست لديهم صلات قرابة مع اليمين السياسي.

ووفقا لأحمد النجار، مدير وحدة الدراسات الاقتصادية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، باع مسئوليو الحكومة الأراضي المملوكة للدولة بأسعار منخفضة للعائلات المرتبطة ببعضها سياسيًا. وسمحوا أيضا لتكتلات الشركات الأجنبية بشراء الشركات المملوكة للدولة بمبالغ صغيرة، مقابل دفع رشاوى.

وفي الوقت نفسه، كانت الحكومة تلزم المستثمرين الأجانب بتأسيس مشاريع مشتركة مع الشركات المصرية. وشكلت العائلات ذات الصلات الوثيقة مع الحزب الحاكم النصف المصري من المشاريع المشتركة المربحة.”(19)

وأصبح أحمد عز، اعتمادًا على صداقته لجمال مبارك بشكل خاص، رمزًا لرأسمالية المحسوبية المصرية، فتمكن من شراء شركة الصلب المخصخصة بثمن بخس، وانتهى به الأمر إلى السيطرة على ثلثي سوق الحديد المصري. كما أصبح أيضا عضوًا في البرلمان، وأدار حملة بلطجية الحزب الوطني الديمقراطي لتزوير الانتخابات التشريعية بفجاجة في نوفمبر 2010. وكان الطرابلسية المقابل لعز في تونس، وهم أصهار بن علي الذين استخدموا صلاتهم العائلية في تحقيق ثراء فاحش. ووفقا لمنظمة الشفافية العالمية، سيطر بن علي والطرابلسية فيما بينهم على ما يتراوح من 30% إلى 40% من الاقتصاد التونسي، أو حوالي 10 مليارات دولار. واتُهمت ليلى الطرابلسي، زوجة الرئيس السابق، بالفرار إلى جدة ومعها 1.5 طن من السبائك الذهبية في حقائبها.

وهكذا، لم تعن الليبرالية الجديدة في الشرق الأوسط انفصال السلطة الاقتصادية عن السياسية، كما تتضمن الفكرة المجردة للسوق الحر، بل انصهارهما معا. ولم يعد هناك رأسمالية دولة. فقد سمحت العلاقات السياسية لمن هم في القمة بتكديس ثروة خاصة مهولة. وانعكس ذلك بشكل مباشر في إحساس بالظلم الاقتصادي والاجتماعي تجاه شاغلي قمة النظام، حيث أصبح الفساد الذي عم النخب باديًا للعيان

.

نقلا عن موقع المناضلة


Saturday, July 9, 2011

حول ما يسمى بالتروتسكية المصرية بين عام 1938-1948


بشير السباعى -1944


اقدم لكم سلسلة من مقالات الماركسى الرائع بشير السباعى عن بداية استخدام مصطلح التروتسكية فى الحركة اليسارية المصرية من منتصف الثلاثينيات ...ومن خلال هذا التأريخ المعاصر يسجل لنا بشير السباعى مواقف تروتسكى والاحزاب التى أسست الأممية الرابعة ضد انحرافات وجرائم الستاليينة السياسية والفكرية واثرها المخرب على الحركة الاشتراكية العالمية.....وربما من المهم اعادة استكشاف تلك الفترة المهمة من تاريخ الحركة اليسارية المصرية لانة من الضرورة بمكان توضيح الاختلاف الكبير بين التيار التروتسكى المعاصر فى مصر - ومن ابرز ممثلية الاشتراكيين الثوريين .
.
.و....تيار التجديد
الاشتراكى
- وبين الافكار الستالينة المشوهة للاشتراكية ....

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة

الحلقة الرابعة

الحلقة الخامسة

Tuesday, July 5, 2011

ماركس في "الأيديولوجيا الألمانية: الفلسفة رأساً على عقب!

مقدمة اكثر من رائعة لعمل نادر وقيم للغاية من ابداعات ماركس وانجلز
-------------------------------------------------



هذه المقالة كتبها الرفيق سيمون أوللي (عضو منظمة "البديل الاشتراكي" بأستراليا)، كمقدمة لطبعة جديدة من كتاب الأيديولوجيا الألمانية الذي كان قد كتبه ماركس وانجلز منذ ما يزيد عن قرن ونصف، والذي كان قد أنجزا فيه تصفية حساب شاملة للفلسفة المثالية.

(المترجم)

"لقد عمل الفلاسفة حتى الآن من أجل فهم العالم، لكن الأهم من ذلك تغييره".

هكذا تكلم ماركس فى خاتمة " أطروحات حول فيورباخ"، تلك الوثيقة الهامة التي كتبها في العام 1845. و رغم أن هذه المقولة تعد الآن من المقولات الأساسية المأثورة فى الماركسية، إلا أن ماركس و رفيقه انجلز لم يبدءا فى تعرية المغزى الحقيقي لهذه المقولة إلا فى الأعوام اللاحقة لهذا التاريخ.

لقد خصص ماركس وانجلز جزء كبير من كتاب "الأيديولوجيا الألمانية" لتصفية حساب ناجزة مع "عصبة الشباب الهيجليين" والتى كان ماركس نفسه منخرطا فيها إبان سنتى دراسته فى برلين. تشكلت هذه العصبة أساسا من عدد من الطلبة والمثقفين الذين سعوا –مقتفين أثر فلسفة الفيلسوف الألمانى هيجل – من أجل تغيير المجتمع، و ذلك عن طريق النقد العقلى للأطر الأخلاقية و الفلسفية والسياسية القائمة فى هذا المجتمع.

عقب إتمامه للدكتوراة عام 1841 و معايشتة المبدأية للجوانب الأكثر واقعية للعصر، أصبح ماركس غير راضٍ عن النهج المثالى المجرد للشبيبة الهيجلية. وقد لعبت عدة عوامل دورا مهما فى هذه الانعطافة الفكرية فى حياة ماركس؛ أهمها انتقاله إلى باريس عام 1843 حيث كان على اتصال بالحركة العمالية الصاعدة هناك، ومن خلالها تعرف على انجلز.

ومن خلال معايشته المريرة لرجعية السلطات الألمانية خاصة إبان عمله كمحرر لجريدة "الرينانية الجديدة"، تطور وعيه تجاه إدراك أهمية "الابعاد المادية" فى تحديد الواقع الاجتماعى للعصر، الأمر الذى دفعه للتساؤل حول جدوى الجدالات الفلسفية المجردة فى تغيير الواقع. ومن جانب آخر فإن هذا الكشف قد ترسخ داخل عقل ماركس طوال فترة مكوثه فى باريس، ومن ثم استطاع ماركس أن يدرك التناقض الصارخ بين مبادئ الثورة الفرنسية (الحرية – العدالة – المساواة) وبين ما يعانيه الجتمع الفرنسى بشكل حقيقي.

ومن ثم أصبحت القضية، فى ذلك الوقت، ليست فى تبني شعارات الحرية والديموقراطية المجردة و الدفاع عنها، ولكن فى مجابهة الواقع المادى والاجتماعى الذى جعل من هذه الشعارات مجرد مادة للتسامر في القاعات المغلقة.

أما انجلز، الذى كان قد أمضى وقتا فى مانشستر –المركز الصناعى المتقدم فى بريطانيا– و الذى كان بصدد نشر كتابه "حال الطبقة العاملة فى إنجلترا"، فقد شجع ماركس بقوة فى هذا المضمار. وقبل أن يصدر "الأيدولوجيا الالمانية" لم يكن لدى ماركس وانجلز سوى السخط على ما اعتبراه مقولات جوفاء للقوى الراديكالية الألمانية فى ذلك الوقت.

لكنهما أيضاً استطاعا تلخيص رؤيتهما تلك فى المثال التالى:
"ذات مرة، قفزت إلى ذهن أحد المغامرين رؤية مفاداها: أن الناس يغرقون فى الماء فقط لأن فكرة الجاذبية تتملكهم كليا. لكن إذا استطاع أحد ما أن يطرد هذه الفكرة من رأسه بأن قال مثلا أنها فكرة سطحية أو وهم دينى فسيصبح حتما محصنا ضد مخاطر الغرق. وبهذا يقضى المغامر حياته كلها مناضلا ضد وهم الجاذبية الضار والذى من الناحية الأخرى تثبت كل النتائج التجريبية والاحصاءات صحته مع الاسف.. إن الفلاسفة الثوريين الألمان هم من نفس طينة هذا المغامر".

كان الهيجليون الشبان يدافعون بقوة عن (أهمية الارتقاء بوعى الطبقة العاملة) هذا الوهم الذى مازال –للأسف– يطاردنا حتى اليوم. ووفقا لهم فإن كل شرور العالم تنبع من الفهم الخاطئ (وبالتحديد الفهم الدينى) للطبيعة والتاريخ و الأخلاق والسياسة، وبهذا ظنوا أنهم لو استطاعوا تغيير فهم العامة لهذه الأمور فإن العالم سيصبح جنة.

ولكن هذه الأحلام النبيلة لم تجدِ نفعا أكثر من –فلنأخذ مثالا– دعوات "الوعى البيئي" كحل للتدمير الشامل للبيئة الذى أدت إليه عولمة الرأسمالية فى عصرنا. هذا الحل الذى يرضى غرور أقلية من الطبقة الوسطى بأن تسمو أخلاقيا فوق (العامة)، أما إسقاط نظام الإنتاج الذى يهيمن عليه الربح من أجل الربح، فهو أبعد ما يمكن أن يفكر هؤلاء فيه.

فهم جديد للتاريخ والمجتمع

بالنسبة للشباب الهيجليين، فإن الانعطافات التاريخية الكبرى لا يحددها سوى تطور الأفكار. إن مناهجهم فى دراسة التاريخ والمجتمع –هى كما حددها ماركس وانجلز – نازلة....... "من السماء للأرض"، ومن تأملات "المفكرين الكبار" أو "السياسيين والمستنيرين" نزولا إلى الحياة اليومية للمجتمع والأفراد.

و كما ادرك الرفيقان؛ فهذا الفهم "يضع العربة أمام الحصان"، فقبل أن يوجد ثمة عالم نقى وخالص من النمو التاريخي للأفكار والدين والفلسفة والسياسة والقانون وغيرهم، كان حتما قبل هذا وفوقه العالم الأقل مثالية من إنتاج و تطور الظروف المعيشية الرئيسية لحياة البشر. باختصار وبشكل أكثر بساطة: لا يمكن لشخص أن يتفلسف قبل أن يضمن مأكله وملبسه وغطائه (ناهيك عن الاحتياجات الاجتماعية الأخرى).

و بالنسبة للرفيقين يرتفع كل تاريخ البشرية فى النهاية على أساس من عمليات الحياة الرئيسية التى يتعاون فيها البشر لإنتاج احتياجاتهم المعيشية. "إن القضايا التى ننطلق منها فى استنتاجاتنا ليست قضايا دوجمائية أو مفتعلة، إنما قضايا حقيقية يمكن تجريدها فقط باستخدام التصور الذهنى، إنها الاشخاص الحقيقيون، حياتهم، نشاطهم، وفى أى ظروف مادية موجودة مسبقا أو يصنعونها بأنفسهم خلال نشاطهم يمكن أن تخضع هذه القضايا للبحث العلمى التجريبي".

وبعكس الهيجليين الشبان، فإن الرفيقين صعدا "من الأرض إلى السماء"، منطلقين من الوقائع التى يعايشها البشر فى كدحهم اليومى –وفقط من هذا المنطلق– مواصلين تحليل ما سمياه (أصداء الحياة الواقعية) فى الأفكار التى نعتنقها عن أنفسنا وعن العالم. هذه القضايا (قابلة للاختبار العلمى) بمعنى أن المسألة تتعلق وحسب بالخروج من البرج العاجى ومعالجة الواقع اليومى للمجتمع.

ماهى إذن العناصر الرئيسية لما يسميه الرفيقان (عملية العيش) و(الظروف المادية)؟ يمكننا ببساطة تعريفها بأنها كل ما يدخل فى عملية الإنتاج التى يوفر بها البشر احتياجاتهم المعيشية. هى بمعنى آخر: المواد الخام، أدوات ووسائل الإنتاج وأيضا الجانب الهام للأنواع المختلفة من العلاقات التى يدخل فيها البشر والتى هى ضرورية بالنسبة لهذا الإنتاج.

هذه العوامل مجتمعة يسميها الرفيقان (نمط الإنتاج). من هنا فإن نمط الإنتاج هذا هو الذى يحدد شكل المجتمع والأفكار السائدة فيه خلال أى مرحلة محددة من التاريخ: "الأخلاق، الدين، الميتافيزيقيا وكل الأيدولوجيات وأنماط الوعى المقابلة لها، ليس لها وجود مستقل بسيط. لا تاريخ و لا تطور لها دون بشر ينخرطون فى عملية الإنتاج المادى ودون علاقات إنتاج مادية و يصنعون خلال ذلك وجودهم الحقيقى، وأفكارهم، وكل نتاجهم الفكرى. الحياة. الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي، وليس الوعي الاجتماعي هو الذي يحدد الوجود الاجتماعي".

كيف تتغير الأفكار

النضال ضد النظام الاجتماعى ليس إذن كما رآه الهيجليين الشبان هجوما على الأيدولوجيات المهيمنة أو (الارتقاء بالوعى)، ولكن النضال الحقيقى هو الذى يسعى إلى إحداث التغيير على مستوى نمط الإنتاج الذى ترتكز عليه هذه الأيدولوجيات. إن الأفكار المهيمنة والمنسجمة مع نمط الإنتاج الاجتماعى الحالى ليس لديها جديد فى "منطق" الجدالات التى تبررها . لكن هذه الهيمنة الأيدولوجية تفرضها سيطرة الطبقة الرأسمالية الحاكمة على القوة المادية للمجتمع.

يقول ماركس و انجلز :
"إن افكار الطبقة الحاكمة هى الأفكار المسيطرة فى كل العصور، أى أن الطبقة المتحكمة ماديا فى المجتمع هى نفسها الطبقة المتحكمة فكريا فيه. الطبقة التى لديها وسائل الإنتاج المادى ووسائل تصريفه، لديها فى نفس الوقت السيطرة على وسائل الإنتاج العقلى. باختصار: أفكار الذين لا يمتلكون وسائل الإنتاج الفكرى تظل منحصرة فيهم وحدهم. الأفكار المسيطرة ليست أكثر من انعكاس لعلاقات السيطرة المادية فى المجتمع، ليست أكثر من هذه العلاقات متمثلة ذهنيا ".

من هنا يطرح السؤال التالى نفسه: هل يمكن إذن إحداث تغيير حقيقى فى هذا المجتمع على الإطلاق؟ اذا كانت الهيمنة الفكرية لرأس المال على المجتمع ترتكن على كل الوضع الحقيقى لعلاقات القوى والتى تطرح خلالها الطبقة المسيطرة أفكارا تسعى بقوة لترسيخها؛ كالملكية الخاصة، التنافسية، الدولة القومية (كأمر واقع) . أين تقع إذن نقطة الهروب التى يمكن من خلالها أن نجد رؤية أخرى؟

من هذه النقطة خطا الرفيقان خطوة واسعة تجاوزت منهج التحليل المادى المباشر للفيلسوف المادي الألماني لودفيج فيورباخ. والذى أسهمت أعماله فى ابتعاد ماركس عن الهيجليين الشباب من قبل.

رأى الرفيقان أن الطريق الوحيد الذى لا يرتد بهم إلى المثالية ثانية يبدأ من محاولة تتبع إمكانات التغيير فى المجتمع انطلاقا من دراسة الآليات الداخلية التى تحكم الإنتاج الاجتماعى نفسه. بدلا من الرجوع إلى وهم "التأثير المستقل" للأفكار على هذا المجتمع. و هنا جاء وقت الاستفادة من إسهامات هيجل التى تتلمذ عليها ماركس. فى النهج الهيغلي:( تتطور الأفكار نتيجة تعارض الرؤى المتقابلة للعالم ).وهكذا الأمر بالنسبة للمجتمع ككل...

و بالنسبة للرفيقين مثلت هذه النظرة صورة معكوسة للحقيقة. فحركة التاريخ يحكمها الصراع. لكن هذا الصراع يقع أولا وفى الأساس على جانب القوى المادية وعلاقات الإنتاج. بينما صراع الأفكار والرؤى ليس فى الحقيقة إلا انعكاسا لهذا الصراع المادى.

وكلما تطورت وسائل الإنتاج من آلات ووسائل وتقنية بمرور الوقت، كلما أدى ذلك إلى تغيرات فى شروط المعيشة بالنسبة للطبقات والمجموعات الاجتماعية المعينة فى نفس المجتمع. وعند مرحلة معينة تؤدى هذه الظروف الاجتماعية الجديدة إلى صراع تسعى من خلاله هذه المجموعات والطبقات إلى تغيير علاقات الإنتاج لصالح دورها الجديد فى دورات الإنتاج.

هكذا يشرح ماركس و انجلز المسألة:
"هذا التناقض بين تطور قوى الإنتاج من ناحية، وعلاقات الإنتاج القائمة من ناحية أخرى -و الذى كما رأينا تكرر مرات عديدية عبر التاريخ- هذا التناقض يعبر عن نفسه فى شكل انفجار ثورى، و هذا الأخير له العديد من الظواهر المصاحبة، على سبيل المثال: الصراعات الأيدولوجية، الصراعات الطبقية المختلفة، تناقضات الوعى الاجتماعى، صراع الأفكار، ناهيك عن الصراع السياسى. وهكذا فكل الصراعات فى التاريخ لها بشكل أو بآخر جذور فى هذا الصراع الأصلى بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعى".

و قد أوضح ماركس وانجلز هذا الأمر فى كتاب "الأيدولوجيا الألمانية" آخذين فى اعتبارهما كيف نمت الطبقة البرجوازية خلال قرون فى ظل النظام الإقطاعى. وأوضحا كيف أن تطور تقنيات الصناعة من تقدم ووسائل الاتصالات وطرق النقل وغيرهما (بمعنى آخر تقدم مستوى وسائل الإنتاج) كيف كرس كل هذا الأساس لزيادة ثروات وقوة البرجوازية، وكيف أدى كل هذا إلى ثورات مثل الثورتين الانجليزية والفرنسية، حيث استطاعت البرجوازية أن تتحرر من القيود التى فرضها النظام الإقطاعى عليها (عن طريق علاقات الإنتاج التي كانت قائمة فى ذلك الوقت).

دور الطبقة العاملة و ضرورة الثورة

قبل كتابة "الأيدولوجيا الألمانية" عام 1845، كانت البرجوازية قد رسخت وجودها باعتبارها الطبقة المسيطرة سياسيا فى أوروبا. وأصبحت شعارات الحرية والمساواة و الإخاء -وهى الشعارات التى استغلتها البرجوازية لتحشد الجماهير الشعبية ورائها فى معركتها ضد الإقطاع- أصبحت طى النسيان فى خضم اللهاث وراء زيادة معدلات الربح، و (اللعبة الكبيرة) للاستعمار وخلافه.

من ناحية أخرى تحدث ماركس وانجلز عن نفس هذا الوقت الذى يشهد "شبح يجتاح أوروبا" على حد قولهما فى البيان الشيوعى. إن نفس التطورات التى أدت إلى صعود البرجوازية، أدت فى الجانب الآخر إلى تكوين طبقة جديدة "البروليتاريا" أو الطبقة العاملة، و هى بحق مصدر كل الثروات والقوى التى اعتمد عليها الرأسماليين والتى افتتحت بحكم ظروف وجودها عصرا جديدا من التغييرات الجذرية.

كما مهد بزوع البرجوازية من داخل النظام الإقطاعى للصعود العالمى لاأسلوب الإنتاج الرأسمالي، كذلك فإن بزوغ الطبقة العاملة يتيح إمكانات الانتقال إلى نظام شيوعى مغاير تماما لسابقه.

المهم أن نفهم أن الشيوعية ليست حلما مثاليا بمجتمع جديد. و قد أوضح ماركس وانجلز هذا جيدا: "الشيوعية التى نعنيها ليست دولة الأمانى التى علينا أن نؤسسها. ليست نموذجا على الواقع أن يكيف نفسه على مقاسه. وإنما نعنى بالشيوعية الحركة الحقيقية التى تقضى على نظام الأشياء الآنى، وشروط هذه الحركة تأتى من ممهدات مسبقة هى موجودة الآن بالفعل".

ماذا كانت إذن هذه "الممهدات" للشيوعية التى استطاع الرفيقان أن يتبيناها فى واقع القرن التاسع عشر في أوروبا؟ وعلى أى أساس توصلا إلى أن نضالات العمال، التى عايشاها -وليس المستقبلية منها- فى مواجهة ظروفهم المعيشية فى ظل نمط الإنتاج الرأسمالى قادرة على "إسقاط نظام الأشياء القائم"؟

مرة أخرى , أدرك ماركس وانجلز أن مستويات تطور قوى الإنتاج تتطور بشكل هائل. أولا: مع التقدم الرهيب في الصناعة والتجارة التى صاحبت ظهور الرأسمالية، أصبح فى الإمكان –لأول مرة فى تاريخ البشرية– تحقيق مساواة مادية حقيقية فى المجتمع دون الوصول إلى حالة الفقر المنتشرة. ثانيا: أن التراكم السريع للثروات فى ظل النظام الرأسمالى بنى بفضل عمل العمال، الذين يستبعدهم دورهم فى هذا النظام من جني أرباحه. تماما كما حاربت البرجوازية من قبل لتحطيم القيود الإقطاعية المفروضة عليها، كذلك الطبقة العاملة تستطيع أن تجني ثمار عملها فقط إذا تضامنت للنضال ضد ظروف معيشتها فى النظام الرأسمالى.

و بسبب طبيعة دورها (أى الطبقة العاملة) العضوى فى النظام. يستطيع هذا النضال أن ينضج فقط من خلال نوع من التنظيم الجماعى الذى سيصبح الجنين للأشكال الجديدة التى سيدار بها المجتمع. قوة العمال تكمن فى قدرتهم على تعطيل عملهم ومن ثم وقف تدفق الأرباح للرأسماليين من مصادرها الأولية. ولكى يتحقق هذا عليهم أن يوحدوا أنفسهم بطريقة تجعلهم يتحركون كوحدة واحدة. ومنها نرى أن مع تطور الرأسمالية العمال ينظمون أنفسهم في نقابات وفى أشكال أخرى من المنظمات العمالية، التي تكون معنية بالأساس بهذا التعطيل المنظم للعمل، والتى فى ظروف ثورية يمكن لها أن تتطور إلى منظمات تدير الإنتاج لصالح العمال. هذا بالضبط ما حدث فعلا فى الثورة الروسية 1917 مع السوفيتات، ومع لجان العمال و الأشكال الشبيهة التى ظهرت فى ثورات: ألمانيا (1918 – 1923) – اسبانيا (1936) – المجر (1956) – إيران (1979) وفي الكثير من الحالات الأخرى.

و إذا لم تكن قوة الحركة العمالية عام 1845 كافية لتقضى على الرأسماليين فى العالم، فقد ركزا على أن الثورة هى التتويج الوحيد لهذا النضال الاجتماعي. فالتحول الشيوعي برأيهما ليس بالشئ الذى يحدث تلقائيا خلال التطور التدريجى.

"الثورة ضرورة.. ليس فقط لأنها الطريقة الوحيدة لإزاحة الطبقات المسيطرة، وإنما أيضا لأن الطبقة التى تقوم بها تستطيع فقط من خلالها وحدها أن تطرح عن كاهلها أثقال العصور السابقة، ومن ثم تصبح قادرة على خلق مجتمع جديد".

الرأسماليون يمارسون سلطتهم بطرق عدة: أكثرها مباشرة هى أجهزة القمع المباشر للدولة (القوات المسلحة، الشرطة والمحاكم، وغيرها). أيضا يعتمدون على ثقل البناء الفوقى للمجتمع متمثلا فى: بيروقراطية الدولة، نظام التعليم و الإعلام، إلخ.. هذه الوسائل جميعا تمارس ضغطا كافيا لاقناع العمال أن الرأسمالية هى "الطريقة الوحيدة التى يمكن ان تسير بها الأمور". الثورة إذن هى الطريق الوحيد التى يمكن للعمال خلالها تحطيم الأسس المادية والايدولوجية للطبقات المسيطرة, و فى نفس الوقت تكتسب الطبقة العاملة الثقة والخبرة اللازمتين لتمارس دورها القيادى فى التأسيس لنمط إنتاج اشتراكى جديد. فهم جديد للتاريخ و المجتمع وأفول الأفكار والبنى وإمكانات إشراق جديد لمجتمع اشتراكى يشق –عن طريق الثورة– ظلمات الرأسمالية.

يحمل كتاب "الأيدبولوجيا الألمانية" قدرا كبيرا من التشويق يضاهى أعمال (دان براون). بالطبع مع فارق أن الأخيرة ليست سوى شطحات مفارقة للواقع. والأهم، يعرض الكتاب المبادئ والوسائل الرئيسية للتحليل الماركسى مبرزا الأطر العامة للماركسية التى نجحت فى اختبار الزمن. الحركة الشيوعية واقعا ممكنا نراه فى كل الثورات العمالية التى اندلعت خلال القرن والنصف قرن الماضى من الرأسمالية، كما نراه فى "كل جذوة تحت الرماد" تشتعل يوميا فى نضالات العمال فى اماكن العمل و المصانع عبر العالم.

لم ينشر كتاب "الأيدولوجيا الألمانية" أبدا فى حياة ماركس وانجلز، وبعد أن رفضه العديد من الناشرين الألمان مرتعدين من تحريضه الصريح على الثورة، أبدى ماركس ارتياحه لصرف النظر عن الكتاب عارضا إياه "للنقد القارض من قبل الفئران"، على حد تعبيره. وبرغم أن الكثير من كتابات ماركس في الفلسفة لم تُنشر في حياته، إلا أن كتاب "الأيديولوجيا الألمانية" يستحق عناء الدراسة بشكل خاص.

* تم نشر المقالة لأول مرة في مجلة "البديل الاشتراكي" الأسترالية، العدد 116 - مايو 2011

Saturday, July 2, 2011

الناى الأبكم


صامتة ....هادئة ..كعادتها دائما ..تجتهد الا تلفت انتباة الجميع اليها تشارك الناس الحياة بالحد الادنى من الانفعال والجهد الذى يثبت انها مازالت فى عداد الاحياء ...ولم يكن احد يلحظ بحور الشجن التى تهدر فى عينيها وتعصف بروحها ....يقول البحار المتمرس ان يوم هادىء اكثر مما ينبغى ينبىء بعاصفة ! ..كعادتها تلعب دور "زهرة الحائط" فى المناسبات الاجتماعية ترقب الجميع وتحجز لنفسها افضل اماكن النظارة ...حتى تشاهد الاصدقاء اللاهيين الضحكين وكانها تستخلص من ذلك المرح وتلك البهجة عزاء لنفسها ...ولكنها تحمل بين جنباتها بحرا هادرا باغنى الوان الحياة ..قادرا على اقتحام الناس وقلب حياة البعض راسا على عقب...هى تعرف ذلك ...رغم انة لم يحدث من قبل...ولكنها فقط تعرفة ...تنتظر بحارا جريئا قادرا على اكتشاف شواطئها المجهولة ....ربما تريد مشاركة العالم باعذب الحان روحها وامارات الحياة ...ولكن حافزا صغيرا ربما يفى بالغرض .....فالناى برغم ما يحملة من اعذب الالحان والنغمات الرخيمة ...لايستطيع ان يؤدى عملة بدون مبادرة احدهم بدفق الهواء بين قنواتة .....والا ظل نايا ابكما