Saturday, December 17, 2011

لهذه الأسباب لن تتوقف ثورة مصر


صباح جمعة الفرصة الأخيرة قبل أكثر من أسبوعين، اختارت صحيفة الأهرام الرسمية هذا العنوان الرئيسى: الفرصة الأخيرة..الاستقرار أو الفوضى. وفى كل مواجهة بين النظام الحاكم وبين القوى الثائرة، سواء كانت فى ميدان التحرير أم الأربعين أم العباسية أم فى مصانع المحلة وأتوبيسات النقل العام، تقفز فى وجوهنا هذه المجابهة السمجة التى تصور كل فعل للجماهير وللثوار على أنه أمر سلبى يتعارض مع «رغبة أغلبية المصريين فى أن يبدأ عصر البناء وأن نلتفت جميعا لمصلحة مصر قبل مصالحنا الخاصة وأن يعود الاستقرار..الخ» من هذا الرطان الفارغ، الذى يمطرنا به مذيعو ومذيعات تليفزيون وراديو النظام القديم، بقنواته الحكومية والخاصة، ناسين أو متناسين أن نفس هذه الأفكار كانت تقدم فى مواجهة الدعوة للتظاهر فى 25 و28 يناير، دون أى قدر من النجاح أو المصداقية.

فى 1924، كتب المفكر الثورى المجرى جورج لوكاتش يصف هؤلاء الذين يفشلون فى رؤية أن الثورة بند لا يمكن شطبه من على أجندة الصراع السياسى والاجتماعي: «الثورة لا تصبح منظورة بالنسبة إلى عامة الناس إلا بعد أن تكون الجماهير العمالية قد شرعت تناضل حول المتاريس. ذلك أن أسس المجتمع البورجوازى ثابتة راسخة فى نظر البعض إلى درجة لا يتمنى معها، حتى عندما تسمع أذناه قضقضة ذلك المجتمع المبشرة بانهياره، إلا عودته إلى حالته (السوية). فهو لا يرى فى أزماته إلا أعراضا عارضة، ويعتبر النضال حتى فى أوقات الأزمات تمردا لا معقولا من قِبل أناس غير جديين ضد الرأسمالية التى لا سبيل إلى قهرها بالرغم من كل شيء. وعلى هذا فإن مقاتلى المتاريس يبدون له أناسا تائهين ضالين، والثورة المسحوقة تبدو له (غلطة)».

يكف تطور الأمور على الأرض فى مصر عن إعطاء دعاة استقرار القديم المرفوض صفعة وراء أخرى بفرض إيقاع الثورة. إذ أن استمرارها ليس مجرد شعار سياسى وليس تعبيرا عن قرار من النشطاء بالتظاهر المستمر، بل هو ضرورة وإمكانية وفرصة للمتضررين من استمرار النظام بحكم التاريخ وتطورات السياسة والاقتصاد.

ثورة سياسية بروح اجتماعية

يحلو للبعض تسمية ما حدث فى مصر بالانتفاضة أو الهبة، وليس الثورة، على أساس أن نظام المصالح المسيطرة القديم مازال قائما. وتكتسب الفكرة قوة إضافية بما أنه، حتى على مستوى وجوه الحكم، فإن التغيير ليس شاملا، فحكامنا، مجلسا عسكريا وحكومات، ليسوا من الثوار بل كانوا لعقود تروسا أساسية فى نظام المخلوع.

غير أن هؤلاء يغفلون أن التغيير الذى فرضه ملايين المصريين بدءا من يناير باسقاط ديكتاتورية 30 عاما لا يترك مجالا للحكم بالطريقة القديمة ويضع المصالح المسيطرة فى اختبار وراء اختبار بعد أن حاصرها فى الركن متشبثة فقط بدعوة يائسة لوقف المنازلة.

تكون الثورة سياسية عندما يكون التركيز على التغييرات فى القيادات الحكومية وأشكال الحكم، وتكون الثورة اجتماعية بالمعنى الشامل، عندما تنزع السلطة من يد طبقة الحكم ومصالحها وتضعها فى يد طبقة حكم جديدة بمصالح جديدة. ويقدم لنا المنظر السياسى الأمريكى هال درابر تعريفا ثالثا: ثورة سياسية بروح اجتماعية، وفيها تكون الثورة السياسية تعبيرا وتدشينا لعملية تثوير اجتماعى فى اتجاه نقل سلطة الدولة ليد مصالح جديدة. وينبهنا درابر إلى أن التمييز بين السياسى والاجتماعى كثيرا ما يكون صعبا للغاية، إذ يمتزجان أحيانا بنسب تتغير طوال الوقت.

وفى تقديرى أن هذا هو أصدق توصيف للثورة المصرية سياسية بروح اجتماعية. فقد هزت الثورة أركان الحكم القديم لتضع على أجندة المعركة السياسية تحقيق ديمقراطية سياسية واجتماعية وطبقية وإعادة لتوزيع الثروة. وببساطة انهارت مصداقية وقدرة الأشكال القديمة للحكم على الحكم، بل وصار عليها أن تواجه هذه القوة الجديدة التى فلت عقالها من عمال وفلاحين وموظفين، وهى قوة تبعث الفوضى فى أوصال النظام القديم وتهدم استقراره، إذ أنها كما لا تقبل استمرار داخليته وتعذيبه واعتقالاته ومحاكماته العسكرية وضيق أفق اختياراته السياسية، لا تقبل أيضا تهميش مصالحها والجور على عيشها وتتطلع لتمكينها من فرض إرادتها على حياتها. هذه هى الأجندة الجديدة للحياة السياسية فى مصر ومن المستحيل عكس اتجاهها الآن. ولأنها كذلك، ولأن المجلس العسكرى والمصالح التى يمثلها، بل والقوى السياسية التى تراوح هى ومصالح من تمثل فتقف تارة مع هذا التيار الجارف للثورة والطموحات العملية المشروعة للأغلبية وتتراجع عن ذلك تارة أخرى، عاجزون جميعا عن تقديم استجابة مقبولة، فإن الثورة مستمرة بلا شك.

تشققات فى جدار الحكم

انظر معى فقط إلى التناقضات التى فرضتها الانتخابات على المجلس العسكرى وأغلب القوى السياسية. الانتخابات هى انجاز للثورة والثائرين الطامحين للديمقراطية بلا شك. وكحال كل الحكام الذين تجاوزهم التاريخ فى إعادة تفسير ما هو مفروض عليهم بأنه دليل على قوتهم وفى معركته مع قوى التغيير، حاول العسكرى تقديم الاقبال الهائل فى اليوم الأول للمرحلة الأولى للانتخابات على أنه «دعم شعبى لشرعية المجلس» وأنه انجاز للعسكر «غير مسبوق فى تاريخ مصر منذ عهد الفراعنة»، بحد تعبير رئيس اللجنة العليا للانتخابات. فى الوقت نفسه، وحتى قبل أن تبدأ المرحلة الثانية، جاءت تصريحات اللواء مختار الملا للصحافة العالمية عن أن البرلمان المنتخب لا يعبر عن المصريين، وأنه لن يُسمح له بالانفراد بكتابة الدستور. وكأنه يرسل رسالة لكل من قنعوا بالذهاب والتصويت فى الانتخابات مفادها أنه لا قيمة على الإطلاق لما قمتم به. رسالة مفادها أنه إذا أردتم الديمقراطية فلتبحثوا عن وسيلة أخرى لأنى لن أقدمها لكم.

هذه هى حال الثورة السياسية بروح اجتماعية وهى تفرض على المصالح القديمة ومن يمثلها، حتى على مستوى الشكل السياسى، أن يتقدم خطوة ليستخدمها لدعم شرعيته فيكتشف أن فيها دماره فيتراجع عنها.

ولأن هذا القصور لا يقتصر على العسكرى. بل يمتد لكل القوى السياسية التى لا ترقى لطموحات الأجندة الجديدة. يمكننا فهم نكوص ليبراليين عن الالتزام بقواعد الديمقراطية فى صورتها الانتخابية السياسية (لا نتحدث هنا عن انتخابات تجيء بسياسات اجتماعية راديكالية مثلا)، فنجد بعضهم ينزع لتجهيل من صوتوا لأنهم لم يختاروهم، بل وينزعون لدراسة التحالف مع العسكر فى مواجهة انتصار الإسلاميين.

فى الوقت نفسه، يترك إسلاميون الميدان، الذى جلب لهم الشرعية بعد طول الحظر، ورفع لهم الصوت بعد طول الكبت، ليقفوا مع العسكر فى معسكر يطرح شرعية الانتخابات فى مواجهة الثائرين. ثم يكتشفون أن البرلمان المنتظر قد يكون مجرد إطار فارغ لا قيمة له لن يشكل حكومة ولا ينزع ثقة منها، ولا حتى يكتب الدستور، حتى وإن نص استفتاء مارس على ذلك.

لقد ذهب 8 مليون مصرى للانتخاب، فقط للانتخاب، سعيا من أجل الديمقراطية، ورغبة فى حكم مدنى وحياة جديدة، فوضع ذلك الحكام والسياسيين فى تناقضات عسيرة كشفت حدود الانتخابات ذاتها، وخلق معضلات ليست على البال لمن يرغبون فى التمهيد لاستقرار جديد للمصالح القديمة،. وسيكون هذا حال كل القوى، التى لا تضع مرساتها عند مصالح وطموحات أغلبية المصريين التى صار لا تراجع عنها الآن فى مجتمع ديمقراطى حر وعادل، مجتمع مساواة وكرامة. أى قوة تحاول اجتزاء هذه المطالب أو تقليمها ستكون مكبلة وفاشلة ومفضوحة. إذ أنه بعد أن انطلق المارد واكتشف قوته وعرف حقوقه، لن يكون هناك استقرار إلا على أساس من مصالحه وتطلعاته كاملة غير منقوصة.

كيف لا تستمر الثورة إذا؟

Friday, December 2, 2011

الثورة في القرن الحادي والعشرين


يُخبرنا من يحكمون العالم أن الثورة شيء غير ممكن وغير مرغوب فيه. لكن الحقيقة أنها واحدة من الملامح المتكررة للعالم المعاصر.

كل البلدان الأوروبية تقريبا عرفت تفجرات ثورية أو شبة ثورية خلال التاريخ القريب ـ الثورة الروسية 1917،الانتفاضة الأيرلندية 1916ـ1921، الثورتان الألمانية والنمساوية اللتان أطاحتا بإمبراطوريّ البلدين 1918ـ1919، الثورة الإسبانية 1931ـ1936، الانتفاضات التي حررت باريس ومدن إيطاليا الشمالية وأثينا من الاحتلال النازي 1944، الانتفاضة الألمانية الشرقية 1953، الثورة المجرية 1956، أحداث مايو 1968 في فرنسا، الثورة البرتغالية 1974ـ1975، حركة تضامن في بولندا 1980ـ1981، وثورات أوروبا الشرقية 1989ـ1990.

بدون هذه التفجرات، ما كان ممكنا أن تصبح أي من هذه الدول على ما هي عليه الآن.

أما خارج أوروبا، فالصورة حتى أكثر وضوحا. معظم حكومات العالم الثالث، الممثلة في الأمم المتحدة، ما كان لها أن توجد دون الحركات الثورية ضد السيطرة الاستعمارية الغربية في الأعوام الستين الأخيرة. الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها تم تشكيلها عن طريق تفجر ذو أبعاد ثورية في مرحلة تاريخية أبعد قليلا – الحرب الأهلية الأمريكية في السنوات الأولى من العقد السابع للقرن التاسع عشر.

إن انتشار الثورة لا يجب حقا أن يدهش أحدا. فالعالم الحديث بأكمله تشكّل عن طريق أسرع النظم الاقتصادية تغيرا عرفها العالم – الرأسمالية. قوة الرأسمالية الدافعة هي المنافسة العمياء لمراكمة الأرباح والثروة. ومن أجل هذا الهدف هي تعيد تشكيل الزراعة والصناعة باستمرار، مبدّلة بهذا الشروط التي يعمل من خلالها البشر، ومحدثة في هذا السياق تغييرات في كل طرق معيشتهم.

تنتزع الرأسمالية الناس من قراهم وتقذف بهم إلى المدن العملاقة، إلى حد أن 60% من البشر سوف يكونون من سكان المدن بعد عشرة أعوام من الآن. وهي أيضا تنقل ملايين الناس آلاف الأميال من بقعة في العالم إلى أخرى، وتكدسهم في المصانع والمكاتب، ولكنها تأتي كل بضعة سنوات لتقول لهم أن هناك أزمة اقتصادية وأن عليهم أن يبحثوا عن عمل في مكان آخر.

تَعد الرأسمالية الناس بالرفاهية وبالمعاش في حالة التقاعد، ثم تسلبهم ما وعدتهم به. وتقول للنساء في أحد العقود مكانكن هو البيت، ثم تأتي في عقد تال لتخبرهن أنهن لا تستحققن أي امتيازات إذا لم تعملن. وهي تكرر للناس القول أنهم ما لم يخضعوا لمتطلباتها، فسوف تنقل الإنتاج إلى مكان آخر.

إن هذا يختلف كليا عن التغيرات البطيئة في الشروط الاقتصادية والحياة الاجتماعية التي ميزت كل المجتمعات السابقة على الرأسمالية الصناعية، قبل 230 عاما فقط. حاولت الطبقات الحاكمة في تلك المجتمعات أن تُخضع من تسيطر عليهم لنظام صارم يشجع الأفكار المحافظة التي تعظ بأن الأشياء في المستقبل ستظل كما كانت في الماضي. وكما تقول الترنيمة المسيحية "الرجل الغني في قلعته، والرجل الفقير عند بوابته، إن الله هو من جعلهم أغنياء وفقراء وهو من حدد لهم مكانتهم." وبالنسبة لكثير من الفقراء الذين لم يعرفوا أي نوع آخر من الحياة، فإن الأمر بدا بالفعل كما لو أنه هكذا ينبغي أن تكون الأمور.

الحكام الرأسماليون أيضا يحبون وضع القيود العقلية على من يعملون عندهم عن طريق الأفكار المحافظة. ولكنهم يكتشفون أنه يصعب عليهم الاستمرار في ذلك لأي فترة طويلة من الزمن، لأن سرعة التغيرات الاقتصادية تؤدي إلى تبدلات في الأوضاع الاجتماعية مما يجبر الناس على تغيير أفكارهم.

كانت فترة صعود الرأسمالية فترة تغيرات ثورية في المجتمع. الرأسماليون، بعد أن راكموا الثروة في إطار النظام القديم الما قبل رأسمالي، أرادوا أن يعيدوا تشكيل هذا النظام ليناسب احتياجاتهم الجديدة. وهذا كان يعني الحرب من أجل السيطرة على المجتمع، أو على الأقل تشجيع الآخرين للحرب نيابة عنهم.

لكن هذا لم يكن حدثا غير متكرر يستطيع بعده الرأسمالي الرجوع إلى الطرق المحافظة مرة أخرى. فأي تغيرات سريعة أخرى في الإنتاج تخلق احتياجات جديدة للرأسماليين، مما يتطلب تغييرات أخرى في نظام المجتمع. ويتكرر هذا المرة تلو المرة مع كل توسع وتحول وإعادة هيكلة للإنتاج الرأسمالي.

وكما أشار كارل ماركس وفريدريك إنجلز "التثوير الدائم للإنتاج والتغير المستمر لكل الظروف الاجتماعية، واللايقين اللانهائي، والفوران، كل هذا يميز الحقبة البرجوازية عن كل ما سبقها من عهود. كل العلاقات الثابتة والمتحجرة، وما يتبعها من أحكام مسبقة وآراء يتم تنحيتها بعيدا، كل ما هو جديد يصبح قديم جدا قبل أن يتحلل، كل ما هو جامد يتحول إلى هواء."

ينطبق هذا بشكل مطلق على القرن الحادي والعشرين – تلك المرحلة من الرأسمالية التي يطلق عليها عادة "العولمة". فـ"السوق الحرة"، و"الليبرالية الجديدة"، تعنيان تحرير الرأسمالية من كل القيود، حتى تلك القيود التي تمنع الرأسمالية من تدمير المؤسسات الاجتماعية والأوضاع التي كانت تخدمها جيدا في الماضي. الآن تتعامل الحكومات الرأسمالية مع التقلبات الوحشية للنظام، انتعاشه وأزماته، بالتخلي عن الطرق التي كانت تدعي أن بمقدورها السيطرة على هذه التقلبات.

وفي نفس الوقت تدعي الحكومات أن "قواعد المنافسة" تستبعد وضع أية قيود حقيقية على استهلاك احتياطيات المادة الخام التي تعتمد عليها الرأسمالية أكثر من غيرها – النفط. وفي هذا السياق تحدث الرأسمالية، من خلال ظاهرة "الاحتباس الحراري"، تدمير بيئي لم يسبق له مثيل. والقوة الرأسمالية الأكبر، الولايات المتحدة الأمريكية، تميل بشكل متزايد للتهديد بالحرب، كوسيلة للتأكد أنها لن تخسر في منافسة تتزايد عشوائيتها.

هذا هو العالم في القرن الحادي والعشرين. إنه عالم غير مستقر، الثورة فيه أكثر احتمالا، وليست أقل احتمالا، من أي وقت مضى.

ما الذي يصنع ثورة؟



يتحدث الناس عادة كما لو أن الثورة تُصنع بواسطة مجموعات الاشتراكيين الموجودة بالفعل التي تكبر أحجامها قليلا ثم تقوم بتغيير الأمور فجأة. في أواخر الستينات كان الناس يرددون وراء تشي جيفارا قائلين "إذا كنت ثوريا، فاصنع ثورة".

لكن الثورة لا تحدث أبدا نتيجة سلوك مجموعة من الاشتراكيين فحسب، بغض النظر عن كونهم مجموعات صغيرة أو كبيرة. إنها تحدث لأن كتلا هائلة من الناس، العديد منهم لم يفكر في أمر الثورة في الماضي، دفعوا بأنفسهم إلى مركز المسرح السياسي.

الثورة الفرنسية العظمى 1789 بدأت ليس بسبب نشاط حفنة من الجمهوريين، ولكن لأن آلاف من البشر من أفقر أحياء باريس اختاروا أن يزحفوا إلى القصر الملكي في فرساي.

ثورة فبراير الروسية 1917 بدأت عندما أضربت عاملات النسيج، المتقززات من العمل لساعات طويلة في مقابل أجور هزيلة، وأخذن في قذف كرات الثلج على نوافذ المصانع التي فيها أزواجهن ليخرجوهم إلى الخارج معهن.

مثل هذه الأحداث تحدث تلقائيا، عندما يشعر عدد ضخم من البشر العاملين أنه فقط بأخذ الأمور في أيديهم يمكنهم تحقيق ما يريدون. وفي العادة، يكون أولئك الذين روجوا في الماضي للتغيير الثوري مفاجئين، كغيرهم من الأشخاص، بالتحول في الأحداث.

يحدث هذا لأن العمليات الاجتماعية الأوسع تجعل الناس يتخلون عن طرقهم القديمة للتعامل مع الأحداث.

أشار القائد الثوري الروسي لينين، حين كتب في عام 1915، قبل أحداث 1917 بفترة طويلة، إلى عنصرين ضروريين لظهور هذا التحول في سلوك الناس:

العنصر الأول: لابد أن تصل الطبقات الأدنى إلى نقطة تجد عندها أن شروط معيشتها أصبحت غير محتملة بشكل متزايد.

هذا في حد ذاته غالبا غير كاف لتفجير انتفاضة جماهيرية. يستطيع الناس أن يستجيبوا حتى لتخفيض رهيب في مستويات معيشتهم أو لتدهور في شروط عملهم، بأن يحبطوا أو أن يتحولوا ضد بعضهم البعض بدلا من أن يصبحوا مناضلين. معدل التذمر يزداد، وليس معدل الفعل.

هذا ما جعل لينين يشدد على العنصر الثاني المهم، وهو أن الأزمات الاقتصادية أو السياسية لا تسبب فقط زيادة الإحساس بالغضب في قاعدة المجتمع، ولكن يمكنها أيضا أن تؤدي إلى دخول الطبقة الحاكمة في مأزق لا تستطيع الخروج منه بسهولة.

الأزمات الاقتصادية الكبرى تجعل أكثر الرأسماليين قوة يرتعدون. وكذلك يفعل تورطهم في حروب طويلة لا يمكنهم الانتصار فيها بسهولة. في هذه الحالة يبدأ أعضاء الطبقة الحاكمة في لوم بعضهم البعض على ما يحدث، مع محاولة كل رأسمالي أن ينجو بنفسه على حساب الرأسماليين المنافسين وعلى حساب الناس أيضا.

وفي الحالة القصوى يؤدي هذا إلى إصابة الآلة الإعلامية والقمعية للحكام بالشلل. كل قطاع في الطبقة الحاكمة يحاول أن يستخدم الإعلام والبوليس السري ضد منافسيه. كما يحاول أن يحرّض قطاعات من الجماهير لدعم خططه ضد منافسيه.

لكن حتى في ظروف أقل حدة، فإن الحرب داخل الطبقة الحاكمة تجعل الجماهير تشعر أنها ليست أمام حائط صلد مقاوم لمطالبها وأنه يمكن أن يكون لأفعالها تأثيرا.

الحالة الثورية تنفجر عندما يحدث العنصران معا، عندها، حسب كلمات لينين، "لا ترغب الطبقات الدنيا في العيش بالطريقة القديمة"، كما أن "الطبقات العليا لم تعد قادرة على العيش بالطريقة القديمة". لا أحد، في أي مستوى من مستويات المجتمع، يكون راضيا عن النظام القائم. الكل يكون متعطشا لحل، مهما كان "متطرفا".

الرأسمالية في النصف الأول من القرن العشرين كانت باستمرار تنتج هذه الحالات الثورية مع الحروب الكبرى والأزمات الاقتصادية الكبرى. والرأسمالية في بداية القرن الحادي والعشرين مرة أخرى تنتج هذه الحالات الثورية بعولمتها الفوضوية للإنتاج والتمويل.

ذلك أن هذه العولمة الفوضوية تعني أن بلدانا بأكملها، أو حتى مناطق بأكملها من العالم، قد تُضرَب فجأة بأزمات اقتصادية أو صراعات عسكرية تجعل الحياة غير قابلة للتحمل من قبل الشعوب، وتجعل الطبقات الحاكمة تمسك بخناق بعضها البعض.

ما حدث في الأرجنتين منذ سنوات قليلة يعتبر مثالا أساسيا لما يمكن أن نتوقعه في أماكن أخرى في العقد القادم. خلال معظم التسعينات كانت الأرجنتين هي النموذج لعولمة الاقتصاد القومي. رئيسها ووزير اقتصادها كانا المثال الذي ينبغي احتذاؤه لدى الاقتصاديين الرسميين في كل مكان نظرا للسرعة التي نفذا بها إعادة الهيكلة والخصخصة والترحيب بالرأسمال الأجنبي.

ثم ضربت الأرجنتين أزمة مالية كانت بدايتها في الجانب الآخر من العالم. فتزايدت ديونها الخارجية فجأة وخرجت عن نطاق السيطرة. وانهارت السوق المحلية لسلعها. ووصلت البطالة إلى معدلات فلكية. وجمدت الدولة كل حسابات المواطنين. ثم انقسمت الطبقة الحاكمة على نفسها بصدد الإجابة على سؤال ما الذي يمكن فعله.

عندها بدأ الناس، الذين لم يفكروا من قبل أبدا في النزول إلى الشارع، من عاطلين وعمال يدويين وموظفين حكوميين وقطاعات من الطبقات الوسطى، يزحفون في اتجاه القصر الرئاسي، محاربين البوليس لمدة 24 ساعة، قبل أن ينجحوا في إسقاط الحكومة.

الأرجنتين لم تكن أبدا حالة معزولة. فلقد رأينا بعضا من هذه العوامل تتفاعل خلال الأعوام الأخيرة في انتفاضات ألبانيا، إندونيسيا، صربيا، إكوادور وبوليفيا. ونستطيع توقع المزيد في الأعوام القادمة.

قد يبدو الأمر وكأن بلد ما تتمتع بالسلام والاستقرار لسنوات. لكن عولمة الرأسمالية تعني أن تلك البلد قد تكتشف أنها كانت مثل عارضة خشبية هادئة في عرض البحر بين موجتين كبيرتين تهددان فجأة بأن تغمراها. في هذه الظروف يمكن للجماهير أن تدخل الحياة السياسة بطريقة مفاجئة لا يستطيع أحد أن يتنبأ بها.

دور الثوريين



ليست كل "الحالات الماقبل ثورية" تنتهي إلى ثورة اشتراكية ناجحة.

الدخول المفاجئ للحياة السياسية من قبل عدد ضخم من الناس من خلال الإضرابات الجماهيرية والانتفاضات العفوية، يؤدي إلى مستوى غير مسبوق من النقاش حول الطريق الذي ينبغي السير فيه. تصبح السياسة هي الموضوع الدائم للحديث بين الناس كلما تقابلوا سويا – في كل طابور أتوبيس، في كل محل، في كل مصنع ومكتب، في كل مدرسة، وفي كل محفل اجتماعي – بطريقة لا يمكن أن نتخيلها نحن الذين نعيش في أوقات غير ثورية.

الناس المتعطشون لتغيير حياتهم يبحثون بكل كيانهم عن الطريق إلى المستقبل. الاشمئزاز من النظام الحالي من ناحية، وخبرة الإضراب الجماعي والتظاهر الجماعي من ناحية أخرى، يجعلان العمال مستعدين بشكل خاص لتقبل فكرة أنهم جماعيا وديمقراطيا يستطيعون أن يأخذوا مسئولية المجتمع بأيديهم. بمعنى أخر، الأفكار الاشتراكية تصبح فجأة متناسبة مع خبرتهم المعاشة بطريقة لم تكن ممكنة من قبل.

لكن أفكار الاشتراكية الثورية ليست هي الوحيدة المطروحة. قطاعات من الطبقة الحاكمة أيضا تبحث عن حلول يائسة لإنقاذ نفسها من الأزمة. يبدأ هؤلاء في دعم جنرالات يحلمون بالانقلابات العسكرية، أو مغامرين سياسيين وصحفيين منحطين يحاولون توجيه حقد الجماهير تجاه الأقليات الدينية والعرقية.

بين هذين الاتجاهين المتطرفين، هناك دائما أولئك الذين يقولون أن المجتمع يجب أن يتغير في اتجاه غير رأسمالي، ولكن ببطء، من خلال التفاوض والعمليات القانونية، وليس من خلال المواجهة المباشرة.

هذا الاتجاه الإصلاحي الذي أحيانا ما يطلق على نفسه "الإصلاحية الثورية" دائما ما يكون له جمهورا واسعا في فترة ما بعد أول صعود جماهيري كبير.

ذلك أن الناس المنخرطين في الانتفاضة ينشأون في مجتمع طبقي يحشر في رؤوسهم فكرة أنهم غير صالحين لإدارة الأمور. هؤلاء لا يغيرون أفكارهم بين عشية وضحاها. حتى بعد الإطاحة بحكومة ما، معظمهم يضع آماله في حكومة جديدة، ظاهريا أقل عداء لمطالبهم وأكثر رغبة في التحدث مع ممثليهم.

تتم تقوية هذه الأوهام عن طريق الإعلام الذي تتحكم فيه تلك القطاعات من الطبقة الحاكمة التي تتحدث عن "الأمل للمجتمع" إذا ما تكاتفت كل الطبقات بطريقة لم تحدث من قبل.

غير أن عمق الأزمة الاجتماعية يعني أن تلك الحلول "السلمية" و"الوسطية" المعتمدة على "المشاركة" غير ممكنة. لكن هذا لا يمنع أناس كثيرون من أن يروا، في مرحلة أولية، أنها "حلول عملية" و"أقل عنفا" من الدفع في اتجاه الثورة الكاملة.

لذلك ففي روسيا في 1917، وبعد أن أطاحت انتفاضة عفوية بالقيصر في فبراير، وضعت الجماهير ثقتها في حكومة يرأسها أحد أغنياء الحرب، الأمير لفوف، ثم بعد ذلك محام التزم بالحفاظ على الرأسمالية، هو كيرنسكي.

وفي الأرجنتين منذ سنوات قلائل تسامحت الجماهير، التي أطاحت بأربعة رؤساء من الموالين للرأسمالية على التوالي، مع اثنين من نفس الخلفية، دوهالدي وكريشنر.

لم يحدث أبدا أن انفجرت انتفاضة ثورية دون فترة انتقالية، يضع الناس خلالها ثقتهم في تسويات غير ناضجة لا يمكن أن تنجح أبدا.

فترة وجيزة، ثم يحدث أن كل الحنق الذي أحدثه الفوران الأول الكبير يأخذ في التراكم مرة أخرى. والاستياء ضد الحكومة الجديدة يمكن أن يصبح أعظم من الاستياء ضد الحكومة القديمة. ولكنه الآن يمكن أن ينمو في اتجاهين. يمكنه أن يتجه نحو تغذية الدعم لأولئك الرأسماليين الباحثين عن طريقتهم الرجعية الخاصة "لاستعادة النظام" للمجتمع. أو يمكنه أن يقود الناس إلى رؤية الحاجة إلى استكمال الثورة، إلى تجاوز إسقاط حكومة إلى إسقاط النظام وأخذ السلطة في أيديهم.

ما كان يبدو كحركة عفوية موحدة في يوم الفوران العظيم الأول، يتبلور الآن في ثلاثة تيارات أو أحزاب – سواء استخدمت هذا الاسم أو لا – هناك حزب ثوري، وحزب رجعي، و(في محاولة لردم الفجوة بين الاثنين) حزب إصلاحي.

محصلة الحالة الثورية تعتمد على المعركة بين هذه الأحزاب الثلاثة الكبرى لتوجيه حنق الجماهير. وفي حالة الأزمة الكبرى، عندما يعجز الخيار الإصلاحي عن تقديم أي حلول، فإن المعركة تكون أكثر فأكثر بين الثوريين والرجعيين من أجل التأثير على أنصار الخيار الإصلاحي.

هذه ليست ببساطة معركة أفكار، على الرغم من أن تلك مهمة. ولكنها أيضا، وبشكل مركزي، كفاح عملي. الطبقة الحاكمة تعتمد في تفوقها على كون الطبقة العاملة مفتتة ومفتقدة للثقة في قدرتها على إدارة الأمور جماعيا.

والطبقة العاملة تستطيع في الحالة الثورية أن تتجاوز هذا العائق، فقط عن طريق خبرة الكفاح من أجل السيطرة على أماكن العمل والشوارع. إنها قوة دفع "التقدم للأمام معا" التي تعطي حتى غالبية العمال "غير المسيسيين" إحساس أنهم جزء من حركة يمكنها أن تخلق مجتمعا جديدا.

هذا هو السبب أن محاولة الإصلاحيين لإبطاء الحركة قد تصبح كارثية. حيث يكسرون الإحساس بالقوة ويسمحون للتشرذم بالعودة مرة أخرى، ومع هذا التشرذم تستعيد الأفكار الرجعية، التي تروج لها أقسام من الطبقة الحاكمة، المبادرة مرة أخرى. هذا هو السبب أن الثورة تصل دائما إلى نقطة حرجة، أما أن تتقدم عندها أو أن تتراجع. والتراجع يعني عودة الرأسماليين القدامى في شكل أشد سوءا مما كان في الماضي.

الحزب الثوري ليس ضروريا لتبدأ الثورة، ولكنه ضروري بشكل مطلق لضمان انتصارها، للتأكد من أن الاختيار الصحيح بين الاشتراكية والبربرية قد تم.

بناء الحزب



هناك مفهومان واسعا الانتشار، ولكن كلاهما خاطئ. الأول أن الحزب الثوري يعتمد على اللعبة الانتخابية مثل الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية في القارة الأوروبية، لكنه أكثر يسارية. أسلوبه ينبغي أن يكون أن بناء القوة من خلال الدعاية من انتخابات إلى انتخابات، حتى يحصل على العدد الكافي من المقاعد البرلمانية لتشكيل الحكومة – أو على الأقل لتكوين ائتلاف مع أحزاب يسارية الأخرى.

هذا الأسلوب هو في نهاية المطاف كارثي، ذلك أن معظم الأزمات الاجتماعية الكبرى التي تجذب كتلا عريضة من الناس إلى السياسة، لا تُخاض معاركها في القاعات البرلمانية أو تبعا للجداول الزمنية للبرلمانات.

النشاط البرلماني الانتخابي قد يستطيع، في بعض الحالات، توفير طريقة للاشتراكيين لنشر أفكارهم عن الصراع الطبقي أمام عدد كبير جدا من الناس، ولكنه لا يستطيع أن يحل محل خوض هذا الصراع في أماكن العمل وفي الشوارع.

الرؤية الثانية للحزب الثوري هي أنه مجموعة منظمة بشكل محكم تخبر العمال أنهم في حاجة إلى ثورة وأنها ستقوم بها نيابة عنهم، مجموعة تعتمد على تحول العمال نحوها فقط عندما تصبح الأمور حقا ميئوس منها. وحتى تأتي هذه اللحظة، فإن "المجموعة" تبقى بعيدة عن الكفاح ضد المظالم الجزئية للرأسمالية خشية أن يخلق هذا أوهاما حول إمكانية الإصلاح.

هذه كانت رؤية الثوري الفرنسي بلانكي في القرن التاسع عشر، وكانت أيضا رؤية واحد من أكثر الشيوعيين الإيطاليين أهمية في بداية العشرينات – بورديجا. وأيضا من ناحية عملية كانت هذه هي طريقة بعض أجنحة اليسار في مجموعات حرب العصابات التي انتعشت خلال الستينات والسبعينات.

من زوايا عدة، تعد هذه الصورة انعكاسا مختلا للطريق اليساري الانتخابي، حيث أن كليهما يشتركان في فكرة أن الثوريين يغيرون المجتمع بالوكالة عن الجماهير التي تقدم الدعم بشكل سلبي، سواء للبرلماني اليساري أو للمقاتل اليساري.

الطريق الثوري الحقيقي مختلف تماما عن ذلك. إنه يقوم على الاعتقاد أن القطيعة مع كل بشاعات المجتمع الطبقي يمكنها أن تتم فقط عندما يأخذ مجموع العمال السلطة بأيديهم. وهي ترى أيضا أن الطريق الوحيد الذي يحصل به العمال على القوة اللازمة والفهم الضروري ليقوموا بهذا يأتي من خلال كفاحهم الخاص.

في أوقات الأزمة الاجتماعية الكبرى واشتعال الثورة، يمكن كسب غالبية العمال إلى حجج الثوريين، ويمكن أن يقوم العمال بما هو ضروري فعله.

لكن دائما توجد قلة من العمال يمكن كسبها إلى الأفكار الاشتراكية الثورية، حتى عندما تكون الثورة بعيدة جدا. هذا لأن الرأسمالية تدفع الناس دائما إلى التمرد، و لو بقدر صغير، ضد ضغوطها عليهم. قد يحدث إضراب قصير على الأجور، أو حملة ضد خصخصة الإسكان، أو اعتصام ضد العنصرية، أو مقاومة ضد الحروب الإمبريالية. لكن في أي نقطة من الوقت سوف تكون هناك عشرات من النضالات. وفي كل واحد من هذه النضالات يبدأ بعض الناس في تحدي أولويات النظام، وفي إطار هذا يبدأون في بلورة أسئلة في عقولهم حول طبيعة النظام ككل.

المنظمة الثورية الحقيقية هي التي تحاول أن تجمع هؤلاء الناس معا، حتى يبدأوا في بلورة أفكارهم حول كيفية محاربة النظام بنجاح. هذا يشمل النقاش، والتعلم من الخبرات الكفاحية في الماضي، وتحليل النظام القائم والنضالات الجارية ضده اليوم. ثم تغذية استنتاجات المناقشات مرة أخرى في الكفاح الطبقي اليومي.

إن الهدف هو خلق شبكة من كل الناس الأكثر نضالية في كل مكان عمل وفي كل حي، بحيث يزيدون من قوة بعضهم البعض، ويعوضون نقاط ضعف بعضهم البعض، ويتعلمون من خبرات بعضهم البعض. بهذه الطريقة يمكنهم أن يعملوا سويا للتدخل في النضالات المختلفة الجارية، محاولين التقريب بينها، ومجابهين الطبقة الحاكمة وإعلامها في محاولاتهما لتحويل جزء من العمال ضد جزء آخر من العمال.

وحتى لو كان مستوى الصراع منخفضا، يظل هذا مهما. فكل هزيمة تفتت العمال، وتسهل من سيطرة الأفكار الرجعية التي تجعل الأقليات كبشا للفداء. وكل نصر يجعل من الأصعب كثيرا على الطبقة الحاكمة إخضاع العمال والفقراء بشكل كامل.

وعندما يصل الصراع إلى مستوى عال من الحدة، فإن وجود منظمة ثورية لديها شبكة من النشطاء في كل موقع عمل وفي كل حي يمكن أن تكون له أهمية كبرى. ذلك أن نتيجة النضالات الكبرى يمكن أن تحدد شكل الصراع الطبقي والجو الأيديولوجي لسنوات طويلة مقبلة.

ولذلك، فعندما يقول بعض الناس أنهم ضد التنظيمات "الطليعية"، فما يقولونه حقا هو أنهم لا يريدون للعمال الأكثر نضالية أن يوحدوا قواهم لمحاربة النظام بفاعلية.

إن تلك الحرب تأخذ أشكالا عديدة. فهي تتضمن، خلال فترة زمنية طويلة، ما أسماه الثوري الإيطالي غير المفهوم بشكل كبير أنطونيو جرامشي "حرب المواقع" – وهي معركة طويلة صعبة تهدف إلى إحراز تقدم بطيء للأمام. خلال ذلك ينخرط الثوريين في مئات من المعارك الصغيرة لتحسين حال الطبقة العاملة، ويحاولون اكتساب أنصارا قليلين لأفكارهم. وبشكل نموذجي، هذا يشمل النشاط في النقابات، في محاربة تقليص الضمان الاجتماعي، مناهضة العنصريين، بناء التضامن مع الإضرابات، واستخدام الانتخابات كفرصة لتوضيح رؤية اليسار لقطاعات واسعة من الناس.

لكن هذه الأفعال، في حد ذاتها، تترك الرأسمالية سليمة بينما تبني شبكات الناس الذين يريدون الإطاحة بها. تلك الشبكات تظهر بكامل معناها عندما تفتح "حرب المواقع" الطريق لما أسماه جرامشي "حرب المناورات" – مواجهات مفاجئة وسريعة يتبدل خلالها مزاج ملايين الناس بين عشية وضحاها.

إذا كانت المنظمة الثورية قوية، فإن أعضاؤها يستطيعون توجيه أغلبية الجماهير في اتجاه يحتاجه المجتمع ككل. أما إذا كانت ضعيفة أو غير موجودة، فإن آمال الناس تتحول إلى يأس، وكل شيء يرجع إلى الوراء.