Saturday, December 17, 2011

لهذه الأسباب لن تتوقف ثورة مصر


صباح جمعة الفرصة الأخيرة قبل أكثر من أسبوعين، اختارت صحيفة الأهرام الرسمية هذا العنوان الرئيسى: الفرصة الأخيرة..الاستقرار أو الفوضى. وفى كل مواجهة بين النظام الحاكم وبين القوى الثائرة، سواء كانت فى ميدان التحرير أم الأربعين أم العباسية أم فى مصانع المحلة وأتوبيسات النقل العام، تقفز فى وجوهنا هذه المجابهة السمجة التى تصور كل فعل للجماهير وللثوار على أنه أمر سلبى يتعارض مع «رغبة أغلبية المصريين فى أن يبدأ عصر البناء وأن نلتفت جميعا لمصلحة مصر قبل مصالحنا الخاصة وأن يعود الاستقرار..الخ» من هذا الرطان الفارغ، الذى يمطرنا به مذيعو ومذيعات تليفزيون وراديو النظام القديم، بقنواته الحكومية والخاصة، ناسين أو متناسين أن نفس هذه الأفكار كانت تقدم فى مواجهة الدعوة للتظاهر فى 25 و28 يناير، دون أى قدر من النجاح أو المصداقية.

فى 1924، كتب المفكر الثورى المجرى جورج لوكاتش يصف هؤلاء الذين يفشلون فى رؤية أن الثورة بند لا يمكن شطبه من على أجندة الصراع السياسى والاجتماعي: «الثورة لا تصبح منظورة بالنسبة إلى عامة الناس إلا بعد أن تكون الجماهير العمالية قد شرعت تناضل حول المتاريس. ذلك أن أسس المجتمع البورجوازى ثابتة راسخة فى نظر البعض إلى درجة لا يتمنى معها، حتى عندما تسمع أذناه قضقضة ذلك المجتمع المبشرة بانهياره، إلا عودته إلى حالته (السوية). فهو لا يرى فى أزماته إلا أعراضا عارضة، ويعتبر النضال حتى فى أوقات الأزمات تمردا لا معقولا من قِبل أناس غير جديين ضد الرأسمالية التى لا سبيل إلى قهرها بالرغم من كل شيء. وعلى هذا فإن مقاتلى المتاريس يبدون له أناسا تائهين ضالين، والثورة المسحوقة تبدو له (غلطة)».

يكف تطور الأمور على الأرض فى مصر عن إعطاء دعاة استقرار القديم المرفوض صفعة وراء أخرى بفرض إيقاع الثورة. إذ أن استمرارها ليس مجرد شعار سياسى وليس تعبيرا عن قرار من النشطاء بالتظاهر المستمر، بل هو ضرورة وإمكانية وفرصة للمتضررين من استمرار النظام بحكم التاريخ وتطورات السياسة والاقتصاد.

ثورة سياسية بروح اجتماعية

يحلو للبعض تسمية ما حدث فى مصر بالانتفاضة أو الهبة، وليس الثورة، على أساس أن نظام المصالح المسيطرة القديم مازال قائما. وتكتسب الفكرة قوة إضافية بما أنه، حتى على مستوى وجوه الحكم، فإن التغيير ليس شاملا، فحكامنا، مجلسا عسكريا وحكومات، ليسوا من الثوار بل كانوا لعقود تروسا أساسية فى نظام المخلوع.

غير أن هؤلاء يغفلون أن التغيير الذى فرضه ملايين المصريين بدءا من يناير باسقاط ديكتاتورية 30 عاما لا يترك مجالا للحكم بالطريقة القديمة ويضع المصالح المسيطرة فى اختبار وراء اختبار بعد أن حاصرها فى الركن متشبثة فقط بدعوة يائسة لوقف المنازلة.

تكون الثورة سياسية عندما يكون التركيز على التغييرات فى القيادات الحكومية وأشكال الحكم، وتكون الثورة اجتماعية بالمعنى الشامل، عندما تنزع السلطة من يد طبقة الحكم ومصالحها وتضعها فى يد طبقة حكم جديدة بمصالح جديدة. ويقدم لنا المنظر السياسى الأمريكى هال درابر تعريفا ثالثا: ثورة سياسية بروح اجتماعية، وفيها تكون الثورة السياسية تعبيرا وتدشينا لعملية تثوير اجتماعى فى اتجاه نقل سلطة الدولة ليد مصالح جديدة. وينبهنا درابر إلى أن التمييز بين السياسى والاجتماعى كثيرا ما يكون صعبا للغاية، إذ يمتزجان أحيانا بنسب تتغير طوال الوقت.

وفى تقديرى أن هذا هو أصدق توصيف للثورة المصرية سياسية بروح اجتماعية. فقد هزت الثورة أركان الحكم القديم لتضع على أجندة المعركة السياسية تحقيق ديمقراطية سياسية واجتماعية وطبقية وإعادة لتوزيع الثروة. وببساطة انهارت مصداقية وقدرة الأشكال القديمة للحكم على الحكم، بل وصار عليها أن تواجه هذه القوة الجديدة التى فلت عقالها من عمال وفلاحين وموظفين، وهى قوة تبعث الفوضى فى أوصال النظام القديم وتهدم استقراره، إذ أنها كما لا تقبل استمرار داخليته وتعذيبه واعتقالاته ومحاكماته العسكرية وضيق أفق اختياراته السياسية، لا تقبل أيضا تهميش مصالحها والجور على عيشها وتتطلع لتمكينها من فرض إرادتها على حياتها. هذه هى الأجندة الجديدة للحياة السياسية فى مصر ومن المستحيل عكس اتجاهها الآن. ولأنها كذلك، ولأن المجلس العسكرى والمصالح التى يمثلها، بل والقوى السياسية التى تراوح هى ومصالح من تمثل فتقف تارة مع هذا التيار الجارف للثورة والطموحات العملية المشروعة للأغلبية وتتراجع عن ذلك تارة أخرى، عاجزون جميعا عن تقديم استجابة مقبولة، فإن الثورة مستمرة بلا شك.

تشققات فى جدار الحكم

انظر معى فقط إلى التناقضات التى فرضتها الانتخابات على المجلس العسكرى وأغلب القوى السياسية. الانتخابات هى انجاز للثورة والثائرين الطامحين للديمقراطية بلا شك. وكحال كل الحكام الذين تجاوزهم التاريخ فى إعادة تفسير ما هو مفروض عليهم بأنه دليل على قوتهم وفى معركته مع قوى التغيير، حاول العسكرى تقديم الاقبال الهائل فى اليوم الأول للمرحلة الأولى للانتخابات على أنه «دعم شعبى لشرعية المجلس» وأنه انجاز للعسكر «غير مسبوق فى تاريخ مصر منذ عهد الفراعنة»، بحد تعبير رئيس اللجنة العليا للانتخابات. فى الوقت نفسه، وحتى قبل أن تبدأ المرحلة الثانية، جاءت تصريحات اللواء مختار الملا للصحافة العالمية عن أن البرلمان المنتخب لا يعبر عن المصريين، وأنه لن يُسمح له بالانفراد بكتابة الدستور. وكأنه يرسل رسالة لكل من قنعوا بالذهاب والتصويت فى الانتخابات مفادها أنه لا قيمة على الإطلاق لما قمتم به. رسالة مفادها أنه إذا أردتم الديمقراطية فلتبحثوا عن وسيلة أخرى لأنى لن أقدمها لكم.

هذه هى حال الثورة السياسية بروح اجتماعية وهى تفرض على المصالح القديمة ومن يمثلها، حتى على مستوى الشكل السياسى، أن يتقدم خطوة ليستخدمها لدعم شرعيته فيكتشف أن فيها دماره فيتراجع عنها.

ولأن هذا القصور لا يقتصر على العسكرى. بل يمتد لكل القوى السياسية التى لا ترقى لطموحات الأجندة الجديدة. يمكننا فهم نكوص ليبراليين عن الالتزام بقواعد الديمقراطية فى صورتها الانتخابية السياسية (لا نتحدث هنا عن انتخابات تجيء بسياسات اجتماعية راديكالية مثلا)، فنجد بعضهم ينزع لتجهيل من صوتوا لأنهم لم يختاروهم، بل وينزعون لدراسة التحالف مع العسكر فى مواجهة انتصار الإسلاميين.

فى الوقت نفسه، يترك إسلاميون الميدان، الذى جلب لهم الشرعية بعد طول الحظر، ورفع لهم الصوت بعد طول الكبت، ليقفوا مع العسكر فى معسكر يطرح شرعية الانتخابات فى مواجهة الثائرين. ثم يكتشفون أن البرلمان المنتظر قد يكون مجرد إطار فارغ لا قيمة له لن يشكل حكومة ولا ينزع ثقة منها، ولا حتى يكتب الدستور، حتى وإن نص استفتاء مارس على ذلك.

لقد ذهب 8 مليون مصرى للانتخاب، فقط للانتخاب، سعيا من أجل الديمقراطية، ورغبة فى حكم مدنى وحياة جديدة، فوضع ذلك الحكام والسياسيين فى تناقضات عسيرة كشفت حدود الانتخابات ذاتها، وخلق معضلات ليست على البال لمن يرغبون فى التمهيد لاستقرار جديد للمصالح القديمة،. وسيكون هذا حال كل القوى، التى لا تضع مرساتها عند مصالح وطموحات أغلبية المصريين التى صار لا تراجع عنها الآن فى مجتمع ديمقراطى حر وعادل، مجتمع مساواة وكرامة. أى قوة تحاول اجتزاء هذه المطالب أو تقليمها ستكون مكبلة وفاشلة ومفضوحة. إذ أنه بعد أن انطلق المارد واكتشف قوته وعرف حقوقه، لن يكون هناك استقرار إلا على أساس من مصالحه وتطلعاته كاملة غير منقوصة.

كيف لا تستمر الثورة إذا؟

No comments: