ثورات الشرق الاوسط الهمت العديد من الاشتراكيين حول العالم ، فالروح الثورية التى تسرى فى كل من مصر ، تونس ، اليمن، ليبيا وباقى ارجاء الوطن العربى ..اعادت الى النقاش والجدل مسألة الثورة الاشتراكية ودور الاشتراكيين الثوريين فى تلك الثورات...ورغبة منا فى فتح نقاش واسع بين كل الاشتراكيين الثوريين حول طبيعة ومهام الثورة المصرية خاصة والدول العربية بشكل عام وماهو التكتيك والاستراتيجية المناسبة للعمل السياسى والنضالى لتجذير الحركة االجماهيرية الواسعة التى تشهدها المنطقة الان
، فأننا ننشر هذا المقال لجون مولينو رغم مرور اربع سنوات علية ...الا ان اهميتة هو فى توضيح الاسس النظرية والمبادىء العامة لنظرية الثورة الدائمة ....والتى تؤكد بشكل حاسم ضرورة دراسة وتحليل خصوصية الوضع "الوطنى " وعلاقاتة المتشابكة بالوضع العالمى للرأسمالية والقوى المناهضة لها .
مئة عام من الثورة الدائمة
جميع النظريات – مثل الأفكار بشكل عام – لها جذور مادية. وهي تنمو كانعكاسات وردود على أوضاع تاريخية واجتماعية محددة. ولفهمها يجب النظر إليها في سياقها. إلا أنه من الخطأ الكبير أن نستنتج من هذا، كما يفعل الناس غالبا، أنه بمجرد مرور الزمن أو تغير المجتمع تصبح نظرية صحيحة في السابق غير ذات دلالة الآن. الاشتراكيون هم أقل من يمكنهم تحمل هذا الخطأ، حيث أنه ما زال لدينا الكثير لنتعلمه من النصوص الكلاسيكية لتراثنا، مثل، على سبيل المثال، كتابات ماركس وإنجلز.
هناك سببان رئيسيان لاحتفاظ مثل هذه النصوص بأهميتها. أولا لأن هناك دائما عامل الاستمرارية إلى جانب التغيير في التاريخ. فالرأسمالية موجودة منذ حوالي خمسمائة سنة. وهي أثناء تلك الفترة تغيرت بشكل هائل. ولكن ظلت ديناميكيتها المركزية هي تراكم رأس المال، وظلت طبقاتها الأساسية هي البرجوازية والبروليتاريا، وظلت علاقة الاستغلال بينهما على حالها. وبالتالي، فإن الكتابات التي تحوي فهما متماسكا لهذه الأساسيات، مثل "البيان الشيوعي"، تحتفظ بقيمة أكبر من أي عدد من الكتب "الحديثة" في التاريخ أو علم الاجتماع التي تفشل في إدراكها.
السبب الثاني هو أن أي تحليل نظري يتضمن رؤية حقيقية للنزعات الكامنة في المجتمع يصبح أكثر، وليس أقل، صحة، مع مرور الوقت وتعزيز تلك النزعات لنفسها. وهكذا فإن عبارة ماركس بأن "البرجوازية من خلال استغلالها للسوق العالمي أعطت طابعا عالميا للإنتاج والاستهلاك في كل بلد" (1)، هي وصف أكثر دقة بكثير لعالم اليوم عما كانت عندما كتبت في عام 1848.
ولكن في الوقت نفسه، يجب أن نتذكر أن أيا من الكتابات في التراث الماركسي ليست نصوصا مقدسة ولا يقف أى منها فوق أو خارج التاريخ، وأنها لا تتعامل مع الحقائق الأبدية، ولكنها تحليلات ملموسة لا تقترن صحة مقترحاتها بكون كاتبها ذا حيثية. ليس هناك شيء صحيح لمجرد أن ماركس أو أي شخص آخر قاله. على الاشتراكيين أن يقدّروا ويدرسوا كتابات الماضي البارزة، ولكن أيضا عليهم أن يقيّموها بشكل نقدي من حيث علاقتها بالتاريخ والواقع المعاصر. ولقد لخص الماركسي اللماح توني كليف ذلك عندما أكد، اقتباسا من إسحاق نيوتن، أن "من يقفون على أكتاف العمالقة يمكنهم أن يروا أبعد ". ولكنه بعد ذلك أضاف: "شريطة أن يفتحوا أعينهم".
ونظرية الثورة الدائمة لتروتسكي، التي وضُعت منذ حوالي مائة سنة، مثال ممتاز على ذلك. فهي تظل مرشدا مفيدا جدا للعمل في عالم اليوم، بشرط ألا تفهم بشكل جامد متعسف.
الثورة الدائمة: روسيا
نشأت نظرية الثورة الدائمة في روسيا القيصرية في بدايات القرن العشرين. كانت روسيا في ذلك الوقت أكثر المجتمعات تخلفا في أوروبا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. حيث كانت الغالبية العظمى من السكان من الفلاحين الذين يعيشون ويعملون في ظروف أشبه بتلك التي كانت سائدة في القرن السابع عشر بأوروبا الغربية. فمثلا ألغيت العبودية فقط في عام 1861، أي بعد أكثر من 400 سنة من اختفائها في بريطانيا، وظل ملاك الأراضي الأرستقراطيون هم الطبقة الحاكمة في البلاد. أما الصناعة الحديثة وما يرتبط بها من طبقات، البرجوازية والبروليتاريا، فقد كانت في طور التكوين في المدن، وخاصة في سان بطرسبرج وموسكو، ولكن الزراعة ظلت هي السائدة. ولم تكن هناك ديمقراطية أو حرية تعبير. فالسلطة السياسية تركزت في يد القيصر أو الإمبراطور الذي كان حكمه مطلقا. وبعبارة أخرى، فإن الوضع في روسيا كان يمكن مقارنته بالوضع في فرنسا قبل ثورة 1789.
وكانت المشكلة التي تواجهها الحركة الماركسية الشابة في روسيا هي ما الذي ينبغي أن يفعلوه في مثل هذه الظروف. وقد اتفق الماركسيون على شيء واحد هو أن روسيا كانت متجهة إلى ثورة للإطاحة بالديكتاتورية القيصرية وأنهم يجب أن يساعدوا في تحقيق ذلك. أما الخلافات فكانت حول التحديد الدقيق لطبيعة وديناميكيات هذه الثورة القادمة، وبالتالي حول الدور الاستراتيجي للماركسيين داخلها. وأتت هذه الاختلافات إلى الواجهة نتيجة لثورة 1905 في روسيا، حيث برزت ثلاثة مواقف محددة.
الأول، وهو موقف بليخانوف والمناشفة، وهو أن الثورة الروسية ستكون ثورة برجوازية، تقودها البرجوازية لتنشأ عنها ديمقراطية رأسمالية تكون فيها البرجوازية هي الطبقة الحاكمة. وتكون مهمة الماركسيين هي دعم هذه العملية مع الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة داخلها. أما النضال من أجل الاشتراكية فيأتي لاحقا.
أما الثاني، الذي اتخذه لينين والبلاشفة، فقد قَبل أن الطابع الأساسي للثورة سيكون برجوازيا – وأن نتيجتها ستكون الديمقراطية الرأسمالية وليست الاشتراكية – ولكنه جادل بأن البرجوازية الروسية كانت محافظة جدا ومحجمة عن أن تقود ثورتها. ولذا فسيتعين على الطبقة العاملة، بالتحالف مع الفلاحين، أن تقود الثورة الديمقراطية.
الثورة التي استشرفها لينين كان من المفترض أن تتوج "بإنشاء الدكتاتورية الثورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين" (2). وهذا يعني حكومة عمال وفلاحين لفترة قصيرة، تتولى إنشاء جمهورية ديمقراطية تنفذ إصلاحا زراعيا جذريا. وبعد ذلك تتوقف الغالبية الفلاحية، بعد ضمان هدفها الرئيسي ألا وهو الأرض، عن أن تكون ثورية وتتحول الديكتاتورية الثورية الديمقراطية إلى ديمقراطية برجوازية عادية يشكل فيها الاشتراكيون معارضة ثورية (3).
أما الموقف الثالث، فهو الذي اتخذه ليون تروتسكي وأصبح معروفا بـ"الثورة الدائمة"(4). اتفق تروتسكي مع لينين أن الطبقة العاملة، وليست البرجوازية، هي التي ستقود الثورة، ولكنه جادل بأنه أثناء هذه العملية ستضطر الطبقة العاملة إلى أن تستولي على السلطة وتبدأ التحول إلى الاشتراكية. بعبارة أخرى، الثورة الروسية لن تقف عند مرحلة الديموقراطية البرجوازية، بل ستنمو إلى سلطة عمالية وثورة اشتراكية. (جاء الاسم، "الثورة الدائمة"، من مقال لماركس في 1850 دافع فيه عن موقف مماثل بالنسبة لألمانيا) (5).
وقد رد تروتسكي على الاعتراض الهام الذي يقول بأن الغالبية الفلاحية في روسيا والتخلف الاقتصادي يجعلانها غير قادرة على تحمل علاقات الإنتاج الاشتراكية، بأن هذا يعد صحيحا إذا اعتبرت روسيا في عزلة! لكن ينبغي أن ينظر إلى الثورة الروسية باعتبارها خطوة أولى في ثورة عالمية، حيث أن شروط الاشتراكية متحققة دوليا. فبدون انتشار الثورة إلى بلدان أخرى، فلن يكون بوسع سلطة العمال البقاء في روسيا (6).
ولابد من تأكيد أن نظرية تروتسكي تضرب بجذورها في تحليل ملموس للتاريخ والمجتمع الروسيين. هذا التحليل يبرز خصوصيات تطور روسيا، ولكن دائما من خلال فهم علاقتها مع بقية العالم، وليس برؤية روسيا في عزلة. فما هو قومي كان ينظر إليه في سياق أممي.
فقد جادل تروتسكي بأن السمة الرئيسية للتاريخ الروسي هو تخلفه بالمقارنة ببقية أوروبا. فالضغط على روسيا من جيرانها الأوروبيين الأكثر تقدما نشأ عنه نمو غير متكافئ في دور وحجم جهاز الدولة الروسية. هذا بدوره يعني أنه عندما بدأت الرأسمالية، متأخرة جدا، بالتطور في روسيا في نهاية القرن التاسع عشر، فإنها فعلت ذلك تحت وصاية ضخمة من الدولة، وعلى أساس استثمارات أجنبية (خاصة من فرنسا وبريطانيا). أنتجت هذه العوامل برجوازية ضعيفة جدا من حيث جذورها العضوية في المجتمع الروسي، وتابعة بشكل غريب للديكتاتورية القيصرية، ومرتبطة بشكل غريب برأس المال الأجنبي، الذي كان قد توقف منذ زمن طويل عن أن يكون ثوريا وأصبح قوة مضادة تماما للثورة على المستوى العالمي.
لكن نفس هذه العوامل، على أية حال، نتج عنها في روسيا بروليتاريا فاق وزنها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي كثيرا حجمها العددي. فبالتحديد بسبب تطورها المتأخر واعتمادها على رأس المال الأجنبي، فإن الصناعة الروسية نشأت على أساس أحدث التقنيات وعلى أوسع نطاق ممكن:
"في نفس الوقت الذي ظلت فيه زراعة الأرض الفلاحية ككل... على مستوى القرن السابع عشر، فإن الصناعة الروسية وقفت في التقنية والهيكل الرأسمالي على مستوى البلدان المتطورة وفي بعض النواحي فاقتها. فالمشاريع الصغيرة، التي تشمل أقل من 100 عامل، استخدمت في الولايات المتحدة في عام 1914 حوالي 35 ٪ من مجموع العمال الصناعيين، ولكنها في روسيا استخدمت 17.8 ٪ فقط... ولكن المشاريع العملاقة فوق 1000 عامل استخدمت في الولايات المتحدة 17.8 ٪ من العاملين وفي وروسيا 41.4 ٪" (7).
وهكذا، فعلى الرغم من كون الطبقة العاملة مثّلت فقط حوالي 5٪ من السكان، إلا أنها أمسكت في أيديها قوى الإنتاج الحاسمة في المجتمع الروسي. ومن خلال تركيزها الهائل في بضع مدن رئيسية توفرت لها قوة سياسية حاسمة. وتبلورت هذه الظاهرة في مصنع بوتيلوف المعروف بنضاليته السياسية في منطقة فيبورج في سان بطرسبورج، الذي ربما كان أكبر مصنع في العالم بعماله الذين بلغ عددهم 40 ألف عامل في عام 1914.
هذا النزوع للرأسمالية إلى أن تضع جنبا إلى جنب في تشكيل اجتماعي واحد أكثر الهياكل الاجتماعية والظواهر تخلفا وأكثرها تقدما أسماه تروتسكي بـ"قانون التطور المركب واللا متكافئ". وفي روسيا أنتج التطور المركب واللا متكافئ مزيج البرجوازية المحافظة والضعيفة والبروليتاريا الثورية والقوية – وكان هذا هو جوهر الأساس المادي لاستراتيجية الثورة الدائمة.
ويجب أن نضيف إلى هذا تحليل تروتسكي لدور الفلاحين. فبينما كان لدى المناشفة عموما اتجاه متشكك نحو حركة الفلاحين، إلا أن لينين أيدها بحماس. ولكن ما اتفقا عليه هو أن وجود غالبية فلاحية يستبعد إمكانية السلطة العمالية. وفي معارضته لهذا أصر تروتسكي على أن ثورة الفلاحين، رغم كونها عاملا حيويا في الثورة، لن تكون قادرة على استبدال البروليتاريا أو قيادة الحكومة الثورية. ومعتمدا على تحليل ماركس للفلاحين الفرنسيين في كتاب "الثامن عشر من برومير لويس بونابرت"، وعلى سجل ثورات الفلاحين في روسيا وأماكن أخرى، خلص تروتسكي إلى أن التجربة التاريخية تبين أن الفلاحين عاجزون تماما عن لعب دور سياسي مستقل" (8). فالريف سيتبع المدينة. الفلاحون سيتبعون أيا من الطبقات الحضرية التي توفر القيادة الأقوى. وحيث أن البرجوازية الجبانة ستخون نضال الفلاحين من أجل الأرض، فسوف ينتج عن هذا أن الفلاحين سيتبعون الطبقة العاملة التي ستضطر، بمنطق الأحداث، إلى أخذ السلطة في يدها.
الثورة الدائمة والواقع
أثبتت الثورة الروسية عام 1917 صحة نظرية الثورة الدائمة. كانت الحقيقة، بالطبع، أكثر ثراء وتعقيدا من أي نظرية. ولكن لا شك أن الأحداث الفعلية طابقت على نحو أوثق منظور تروتسكي أكثر من غيره. فالثورة بدأت مع انتفاضة فبراير التي أطاحت بالقيصر وكانت هي عملا تلقائيا للعمال أنفسهم. وأثبتت الحكومة المؤقتة البرجوازية التي تشّكلت أنها غير قادرة على الإطلاق على تأدية أي من مطالب أو مهام الثورة، لا إنهاء الحرب، ولا إعطاء الأرض للفلاحين، ولا حتى عقد الجمعية التأسيسية لإقامة جمهورية ديمقراطية. أما إصرار المناشفة على الطابع البرجوازي للثورة فقد حولهم أولا إلى قوة محافظة تحاول كبح الطبقة العاملة، ثم إلى دعاة ثورة مضادة صراحة في معارضتهم لثورة أكتوبر.
أما بالنسبة للبلاشفة، فقد تجاوزت الأحداث الموقف الوسيط الذي كانوا يتبنونه. فظهور السوفييتات (مجالس العمال) كتكوينات جنينية لسلطة العمال، وعودة لينين إلى روسيا من المنفى، ساهما في كسبهم إلى منظور ثورة العمال على أساس رفع شعار "كل السلطة للسوفييتات"، أي على أساس تبنى موقف تروتسكي فعليا. وبدوره، انضم تروتسكي إلى البلاشفة وقادا معا استيلاء الطبقة العاملة على السلطة في أكتوبر.
كذلك تأكدت نظرية الثورة الدائمة "سلبيا" بحقيقة أنه رغم أن الثورة الروسية ألهمت موجات ثورية عالمية، إلا أن هزيمة الثورة العالمية جعلت من المستحيل بناء الاشتراكية في روسيا وأدت إلى الردة الستالينية.
ولكن إذا كانت الثورة الدائمة صحيحة بالنسبة لروسيا، فما هي إمكانية انطباقها على البلدان الأخرى التي لم تتحقق فيها بعد مهام الثورة البرجوازية؟ هذا السؤال طرحته بشدة التطورات في الصين. فقد شهدت الصين في السنوات 1925-1927 تصاعدا سريعا لحركة ثورية جماهيرية موجهة ضد الإمبريالية الخارجية وأمراء الحرب الصينيين وملاك الأراضي الإقطاعيين. ولعبت دور القيادة في هذه الحركة الإضرابات الجماهيرية المناضلة للبروليتاريا الصينية الشابة في المدن الساحلية كشانغهاى وكانتون.. الخ (9).
تفاعلت الأممية الثالثة، التي كانت قد غدت تحت السيطرة الكاملة للستالينية، مع هذه الظروف بالعودة إلى موقف المناشفة قبل 1917 بالمجادلة بأن الثورة الصينية ستكون ثورة برجوازية ديمقراطية بقيادة البرجوازية، وأن مهمة الشيوعيين الصينيين لا تزيد عن دعم هذه العملية من اليسار. وفي إطار هذه السياسة صدرت تعليمات إلى الحزب الشيوعي الصيني بالانضمام والانصياع، بل وتسليم قوائم عضويته، إلى الحزب القومي الصينى الرئيسي، الكومينتانج برئاسة تشيانج كاي شيك. واستمرت هذه السياسة، على الرغم من احتجاجات وتحذيرات تروتسكي، حتى عام 1927، عندما وضع شيانج كاي شيك الثوريين الصينيين من العمال والشيوعيين تحت السيف في سلسلة من المذابح في شنغهاي وكانتون. ورد تروتسكي بالإصرار على أن "الثورة الصينية... ستفوز كديكتاتورية للبروليتاريا أو لن تفوز على الإطلاق" (10). ثم في عام 1928، في عمله المثير للجدل "الثورة الدائمة"، بلور تروتسكي نظريته القابلة للتطبيق على جميع البلدان المتخلفة والمستعمرة:
"بالنسبة للدول ذات التطور البرجوازي المتأخر، خاصة المستعمرات وشبه المستعمرات، تشير نظرية الثورة الدائمة إلى أن الحل الكامل والحقيقي لإشكالية تلك البلدان المتعلقة بالظفر بالديمقراطية والتحرر الوطني أمر يمكن تصوره فقط في إطار ديكتاتورية البروليتاريا بوصفها الطبقة القائدة للأمة الخاضعة."
هذا التعميم للثورة الدائمة كان إنجازا هائلة ومصدرا للعديد من المشاكل. كان إنجازا هائلا لأنه بالتخلص من نظرية المراحل الميكانيكية، التي تميز كلا من الإصلاحيين والستالينيين، وبالتخلص من فكرة أن دولا بعينها ليست مستعدة بعد للاشتراكية، أصبح لسلطة العمال والاشتراكية برنامج عالمي بالكامل لأول مرة.
أما كونه مصدرا للمشاكل، فهو يرجع إلى أن الإصرار على أنه لا تقدم ممكنا تقريبا بدون دكتاتورية البروليتاريا يعتبر استبدالا لعقيدة ميكانيكية بأخرى. ظهرت هذه الإشكالية وتقدمت إلى الواجهة بعد الحرب العالمية الثانية عندما تراجع عدد من الدول الإمبريالية، وخاصة بريطانيا، عن سياسات الحكم الاستعماري المباشر، وحققت العديد من البلدان المستعمرة استقلالها الوطني دون ثورات العمال. دفعت هذه التطورات بعض التروتسكيين، الذين تمسكوا بتعصب بحرفية صياغات تروتسكي، إلى إنكار إمكانية حدوث تغييرات في أمور أوضحت صيرورة الأحداث أنها ستحدث – على سبيل المثال، قيادة غاندي ونهرو الهند إلى الاستقلال في 1947، أو انتصار مانديلا والمؤتمر الوطني الإفريقي على نظام الفصل العنصري وإقامة الديمقراطية في جنوب إفريقيا – أو دفعتهم إلى اختراع ثورات عمالية من أسفل لم تحدث، كما هو الحال في تأكيداتهم حول طبيعة ثورات كالصينية والفيتنامية والكوبية.
الثورة الدائمة اليوم
إذن أين تقف الثورة الدائمة فيما يتعلق بالنضال اليوم؟ هنا يجب التمييز بين الثورة الدائمة كتنبؤ مطلق وعام، والثورة الدائمة كهدف استراتيجي. كتنبؤ مطلق (كما في صياغة عام 1928) من الواضح أنه لا يمكن الدفاع عنها، ولكن كنظرية لتوجه استراتيجي عام، فهي في كثير من الحالات مفيدة جدا، بل وضرورية.
أينما كان هناك نضال يشن ضد الإمبريالية أو الاضطهاد العنصري أو القومي أو الدكتاتورية، فإن الاشتراكيين الثوريين يقع عليهم ضغط شديد (من الليبراليين والقوميين والإصلاحيين والستالينيين، وهلم جرا) للتضحية، أو للوضع على الرف (في الوقت الحاضر!)، بالأفكار والمطالب الاشتراكية وحتى المصالح الأساسية للطبقة العاملة، باسم الوحدة في النضال من أجل الهدف المباشر. ترفض استراتيجية الثورة الدائمة تلك الضغوط، ليس من الموقع العصبوي الرافض للنضال المعادي للإمبريالية أو للنضال الديمقراطي بصفته عديم الدلالة، بل من موقف الدفاع عن الطبقة العاملة والقيادة الاشتراكية في النضال من أجل الاستقلال الوطني والديمقراطية.
وفي جميع هذه الصراعات فإن استراتيجية الثورة الدائمة ستعامل ما يطلق عليه "البرجوازية الوطنية"، وحتى أقسامها "الأكثر وطنية"، على أنها في أفضل الأحوال حليف لا يعتمد عليه وعدو محتمل، وبالتالي ستقاوم جميع الدعوات الموجهة إلى الاشتراكيين والطبقة العاملة للتخلي عن استقلالهم السياسي والتنظيمي. فالثورة الدائمة تعني أن الاشتراكيين، بينما يشاركون بقوة في حركات التحرر الوطني والديمقراطية، يسعون إلى تطوير تلك الحركات إلى نضالات من أجل سلطة العمال والاشتراكية العالمية. وذلك ليس بسبب أن أي نوع من الاستقلال الوطني أو الديمقراطية غير ممكن دون الثورة الاشتراكية، ولكن لأن طبيعة الرأسمالية العالمية والإمبريالية ستضعف وتفسد وتقوض أي استقلال أو ديموقراطية يتم كسبهما على أساس رأسمالي.
وبفهمها بهذه الطريقة، فإن استراتيجية الثورة الدائمة، على العكس من الإدعاء بأنه قد عفا عليها الزمن، تلائم الوضع الحالي في الشرق الأوسط تماما. ففي المقام الأول هناك نضال ضد الاحتلال الإمبريالي في العراق. ومن واجب الاشتراكيين دعم هذا النضال دون قيد أو شرط، بصرف النظر عما إذا كان يقوده الإسلاميون أو القوميون أو الشيوعيون أو أيا كان. ولكنه أيضا من واجبات الاشتراكيين أن يضغطوا داخل هذه المعركة من أجل الاشتراكية وقيادة الطبقة العاملة، لأن مثل هذه السياسات وهذه القيادة هي أفضل حصن ضد الانقسامات الطائفية التي يقويها الإمبرياليون وبذلك يضعفون النضال ضد الاحتلال.
وفي المقام الثاني هناك النضال الفلسطيني ضد الصهيونية. ومرة أخرى فمن واجب الاشتراكيين دعم هذا النضال دون شروط. ولكن أليس من الواضح أيضا أنه مهما قاوم الفلسطينيون ببطولة فإن القوة الاقتصادية والعسكرية للصهيونية التي تمولها وتسلحها إمبريالية الولايات المتحدة هي طاغية لدرجة لا يمكن معها للفلسطينيين وحدهم الإطاحة بها؟ فهزيمة إسرائيل الصهيونية والتحرير الحقيقي لفلسطين (وهما متلازمان) لا يمكن أن يتما إلا على أساس تعبئة موحدة للجماهير في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ولكن العقبة الرئيسية أمام هذه التعبئة، بطبيعة الحال، هي الأنظمة الفاسدة الموالية للإمبريالية والبرجوازية والتي توجد في كافة أنحاء المنطقة، والتي وبغض النظر عن رطانتها الوطنية، فشلت مرارا وخذلت الفلسطينيين. وبالتالي فإن تحرير فلسطين يتطلب بإلحاح عملية ثورة دائمة بقيادة العمال في كل أرجاء الشرق الأوسط.
وفي المقام الثالث، هناك النضال من أجل الديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط. الحقوق الديمقراطية – الانتخابات الحرة وحرية التعبير وحرية الصحافة وحرية تكوين الجمعيات وإنهاء التعذيب والاعتقال التعسفي – صحيحة وهامة في حد ذاتها. ولكن النضال من أجل الديمقراطية لا ينفصل عن غيره من الصراعات. فمثلا جزء كبير من كون نظام مبارك قادرا على مواصلة ممارساته غير الديمقراطية والبقاء في السلطة يرجع لأنه مدعوم من الولايات المتحدة. فالإمبريالية الأمريكية تؤيد مبارك لأنه يفتح مصر على السوق العالمي، وعلى الشركات الأمريكية على وجه الخصوص، وبسبب دوره في منع التعبئة العربية ضد إسرائيل و/أو الولايات المتحدة. ومن داخل مصر فإن الطبقة العاملة المصرية الضخمة، والتي تتركز في القاهرة كما كانت البروليتاريا الروسية تتركز في سان بطرسبوج وموسكو، أولا لديها أقوى مصلحة في تحقيق الديمقراطية الكاملة، وثانيا هي أكبر قوة لهزيمة النظام، وثالثا هي تمتلك الوعي والقدرة على قيادة النضال ضد الإمبريالية في المنطقة ككل. وبتعبير آخر، من نقطة انطلاق مختلفة نعود مرة أخرى إلى منظور الثورة الدائمة التي وضعها تروتسكي منذ أكثر من قرن من الزمان.
والمسألة ليست طبعا مجرد الشرق الأوسط. فمن الممكن تماما إجراء عرض مماثل لدلالة وأهمية منظور الثورة الدائمة في جنوب أمريكا أو جنوب إفريقيا أو إندونيسيا (12). والنقطة الأساسية هنا هي المبادئ المنهجية القائمة على الانطلاق من رؤية عالمية في تحليل الخصائص الوطنية وفي فهم قانون التطور المركب واللامتكافئ لكل بلد على حدة، وهي مسائل تعتبر مفتاحا لنظرية الثورة الدائمة.
وفي كل الأحوال علينا ألا ننسى أن الدفاع عن صحة وفائدة نظرية الثورة الدائمة اليوم، هو مثال واحد على فكرة ذات دلالة أوسع، وهي استمرار أهمية النظرية الماركسية والتراث الماركسي كمفاتيح تساعدنا على فهم عالمنا اليوم وعلى النضال ضد شروره.
No comments:
Post a Comment