من الطماطم إلى السكن، اللحوم والتعليم، الأحذية والمواصلات. ليس هناك سلعة فى مصر لم تشهد طفرات فى أسعارها فى لحظة ما خلال السنوات الماضية. ولا يمكن أن نقرن بشكل كامل بين ارتفاع الأسعار وبين حكومة نظيف، التى جاءت للحكم فى منتصف 2004.
فقد سبقتها موجات هائلة من الطفرات السعرية، كان أبرزها ما حدث وقت حكومة عاطف عبيد بعد تحرير سعر الجنيه مقابل الدولار فى 2003. لكن الأكيد أن الإجراءات الأوسع نطاقا لتحرير الأسعار وفقا للسوق تمت فى عصر الحكومة الحالية، التى شنت الحرب الأكثر ضرواة واتساعا على ما أسمته الأسعار الإدارية، التى تحددها الحكومة بغض النظر عن السوق.
موقف الحكومة الذى يعلى سعر السوق مبنى على تجربة مريرة للمصريين مع الأسواق السوداء التى خلقت سعرين لأغلب السلع (ومنها الدولار نفسه) مما منح البعض أرباحا هائلة على حساب المستهلكين، وخلق تشوهات سعرية مؤذية لفروع الإنتاج.
وهكذا جاءت الحكومة لتقود أكبر عملية لتحرير الأسعار بحسب السوق، كان أبرز ملامحها فى الزراعة مثلا أن صار تسعير المحاصيل، الذى ينعكس على العديد من السلع الغذائية، يتم وفقا لأسواقها العالمية. هذا هو السعر السليم والكفء اقتصاديا للسلع، بحسب ما أكدته حكومة نظيف.
وتقوم نظرية السوق الكفئة، وهى نظرية مرتبطة بسياسات الليبرالية الجديدة وتحرير الأسواق فى العالم كله، على أن سعر السوق لأى سلعة هو السعر الصحيح لها. وعندما يرغب الناس فى شراء المزيد من التليفزيونات مثلا، ترتفع أسعارها. لكن المنتجين يزيدون الإنتاج فيزيد المعروض فتعود الأسعار للانخفاض عند نقطة توازن جديدة.
وطبقا لهذه النظرية تتحرك الأسعار لأعلى وأسفل لتحافظ على العلاقة بين العرض والطلب فى توازن تام. ويدعى أصحاب هذه النظرية ليس فقط أن هذا الوضع يكفل استقرار الأسواق، لكن أيضا أنه يكفل أفضل ترتيب للأسعار، مما يؤدى للتخصيص المثالى للموارد فى المجتمع.
ولا نحتاج هنا لا لدليل نظرى ولا سياسى ولا عملى لنؤكد أن السوق الكفئة بهذا المعنى غير موجودة فى مصر. إذ أن السوق أبعد ما تكون عن التوازن. وأزمات الأسعار تتلاحق واحدة تلو الأخرى، لتصبح، فى أحيان كثيرة بندا على جدول أعمال اجتماعات مجلس الوزراء، بل واجتماعات رئاسية كما حدثت فى أزمة الطماطم واللحوم الأخيرة.
لماذا لم تعمل السوق فى مصر كما تعدنا الحكومة ونظريتها فى كفاءة التسعير؟ الرد الرسمى هو عادة واحد من اثنين، لا ثالث لهما: الأسعار العالمية أو جشع التجار. والمبرران فيهما بعض الصحة. فارتفاعات الأسعار العالمية للمحاصيل الزراعية عام 2008 بسبب المضاربة واستخدامها فى الوقود الحيوى، ساهم بالفعل (إلى جانب رفع الحكومة أسعار الوقود فى مايو 2008) فى صدمة تضخمية وموجة ارتفاع هائلة فى الأسعار فى السوق المحلية. ولا يمكن إنكار أن بعض التجار الكبار يستغلون الموقف لرفع الأسعار بطريقة غير مبررة خالقين لأنفسهم هوامش ربح كبيرة.
لكن النظرية تقول إن السوق ببعض العون الرقابى من الدولة تعالج هذه الأوضاع: بزيادة الإنتاج المحلى من السلع التى ترتفع أسعارها، فيعود التوازن إليها، أو بالمنافسة من تجار آخرين يرغبون فى مساحة أكبر من السوق فيخفضون الأسعار فيجبرون «الجشعين» على ذلك. وذلك لا يحدث بالتأكيد. بل إن نفس السلع عندما تعاود الانخفاض فى السوق المحلية (الحديد مثل على هذا)، لا تنخفض فى مصر، وإن انخفضت، فى أحيان نادرة، فليس بنفس سرعة الارتفاع ولا بدرجته. ما معنى ذلك؟
قبل سنتين أو ربما أكثر، جمعت إحدى الندوات بين مجموعة من الصحفيين وبين المحافظ السابق للبنك المركزى إسماعيل حسن فى العين السخنة. وكان يتحدث فى محاضرة تعليمية عن السياسة النقدية (كيف يتدخل البنك المركزى فى الأسواق عبر سعر الفائدة للإبقاء على التضخم فى حدود آمنة والحفاظ على توازن السوق وسعر الصرف). وقال المحافظ لنا بشكل قاطع ما لن أنساه، وما أعتقد فى صحته تماما: لا يمكن للسياسة النقدية أن تؤتى مفعولها فى مصر لأن السوق ليست تنافسية وليست كفئة.
فى العديد من القطاعات الإنتاجية، وفى تجارة المحاصيل، وفى الاستيراد، هناك مراكز احتكارية معتبرة، تحصد ثمار الارتفاعات العالمية وتمتلك منع انخفاض الأسعار إذا انخفضت عالميا أو لوفرة الإنتاج المحلى. وهذا هو نفس السبب الذى ُيمكِّن بعض التجار من رفع الأسعار إذا أرادوا فى السلع التى يحتكرونها.
أما السبب الثانى فهو الفشل الإنتاجى المصرى بالعجز عن الاستجابة لتطورات السوق العالمية. فبرغم كل شيء مازلنا نستورد أغلب غذائنا، ولم يظهر نهم المنتجين لتغطية حاجة الأسواق المحلية مدفوعين بارتفاعات الأسعار. وهذا هو السبب فيما تقوله دراسة للمركز المصرى للدراسات الاقتصادية فى مايو 2010 من أن تغير أسعار السلع عالميا يفسر 43% من تغيرات مؤشر اسعار المستهلكين فى مصر.
وتنقل الدراسة عن البنك الدولى تقديره بأن معدل تمرير أسعار الغذاء العالمية للمصريين يصل إلى ما بين 61% و81%، وهو «معدل يفوق الاقتصادات المتقدمة والناشئة على حد سواء». ومن نافل القول هنا إن الأكثر تأثرا بهذه الموجات من ارتفاعات الأسعار هم الأفقر والأقل دخلا.
ورغم أن الحالة المصرية متطرفة فى كشف فشل السوق فى تحقيق التسعير الكفء للسلع، فإن الفشل ليس محليا. «يجب أن نكون واضحين بهذا الشأن. لم تقدم النظرية الاقتصادية أبدا دليلا على هذه الآراء الخاصة بحرية السوق.
وقوضت نظريات المعلومات غير التامة وغير المتسقة فى الأسواق كل مذاهب السوق الكفئة، حتى من قبل أن تصبح الأخيرة موضة فى عهد ريجان-تاتشر»، هكذا يقول الاقتصادى الأمريكى الحاصل على جازة نوبل جوزيف ستيجليتز فى مقال نشره فى لندن ريفيو أوف بوكس فى أبريل الماضى.
ويبنى ستيجليتز على ما كشفته الأزمة العالمية من فقاعات سعرية فى الأصول المالية والعقارية ليقول إن «اليد الخفية»، التى يعتمد عليها السوق فى تحديد الأسعار هى «يد غير موجودة أصلا». أما اليد التى نعلم يقينا بوجودها فى أسواقنا، فهى يد المحتكرين. وهى يد لن ينحيها عن مصائر عيشنا إلا يد أقوى منها تجبرها على ذلك: يد المستهلكين والدولة التى تمثلهم.
No comments:
Post a Comment