Monday, April 13, 2009

مشوار فخرى لبيب


الكاتب:
مصطفى محمود
الاصدار:
أوراق اشتراكية

العدد20-ربيع 2009

يعتبر كتاب "المشوار" لفخري لبيب إضافة جديدة لأدب السيرة الذاتية في المكتبة العربية. فالكتاب يستعرض بنا أحوال المناضلين اليساريين في مرحلة حرجة للغاية من تاريخ مصر: أربعينيات القرن الماضي حين كانت القوى الوطنية تناضل ضد السراي، وكبار الملاك، والاحتلال البريطاني.
يبين لنا الكاتب كيف كانت مواقف الجماعات والأحزاب والمنظمات السياسية مما كان يحدث في مصر آنذاك. فبعد إطلالة رائعة علي تلك الحقبة، يكشف لنا المؤلف عن كفاح ومشوار جيل كامل من الشيوعيين المصريين بكل انتصاراتهم وانكساراتهم، وفوق كل ذلك تضحياتهم .
ربما كانت نشأة فخري لبيب هي التي دفعته للاهتمام بالسياسة. فقد كان والده، وهو ناظر محطة قطار في الصعيد، يغرس فيه الوطنية ويحدثه دائما عن ثورة 1919 وإنجازاتها ويزرع فيه كراهية الإنجليز والملك. وربما أيضا أكسبته تنقلات الأسرة المتعددة، بسبب عمل والده، خبرة مبكرة عن الحياة. فلقد تنقل بين أكثر من بلدة ومحافظة مع أبيه، وشهد بعينه الفقر والمرض والجهل يعصفون بجموع المصريين البسطاء، بينما كانت تكاليف الحفلات الراقصة للباشوات الكبار كافية لإزاحة كل تلك التعاسة عن فقراء مصر. كل ذلك أثار في نفس الصبي العديد من التساؤلات، وربما وجد ضالته عندما تأثر بمدرس التاريخ في المدرسة الثانوية، الذي كان وطنيا ومؤمنا بالحلول الثورية. إذ كان يقول لطلابه: "إن مصر في حاجة إلي ثورة تطهرها من كل هذه الآفات مثل الثورة الفرنسية".
ويبدو أن فكرة الثورة قد استولت علي صاحب السيرة تماما، فكان يسأل أستاذه كل يوم: كيف يمكن تحقيق ثورة مثل الثورة الفرنسية؟ وكان أستاذه يشرح له كل ما يعرفه عن الثورة الفرنسية.
وما أن وطأت قدما لبيب أرض جامعة فؤاد الأول، 45-1946، حتى شرع في اكتساب المزيد من الأصدقاء، لكن فقط من بين المنشغلين بالسؤال الهام: كيف تقوم ثورة في مصر ؟
لم يهدأ للطالب الشاب فخري بالا حتى تعرف على أحد الطلاب اليساريين بالكلية. وبعد فترة قصيرة تم تجنيده في الحركة المصرية للتحرر الوطني (حمتو). ولكنه سرعان ما تركها لينضم لمنظمة الأيسكرا التي كان خاله "منير" عضوا فيها.
كان فخري يقوم في الجامعة بتوزيع المنشورات الطلابية والتحدث مع الطلاب عن مشاكل الوطن. وبعد فترة وجيزة من العمل أصبح من أهم كوادر الأيسكرا في الجامعة. ويسجل لبيب في كتابه ببراعة فترة صعود الحركة الطلابية المصرية وما شهده من صعاب في تلك الفترة.
ولم ينس لبيب أن يسجل خلال سرده لتجربته السياسية الحافلة داخل الجامعة، وقائع الصدام بين طلاب الإخوان المسلمين والطلاب الشيوعيين، مؤكدا أن طلاب الإخوان كانوا دائما ما يتعرضون لأقرانهم الشيوعيين ويعتدون عليهم بالضرب أحيانا، وكان ذلك غالبا ما يتبعه جولة انتقام من جانب الشيوعيين ضد الإخوان .
وليت الأمر قد اقتصر علي ذلك. إذ يروي لبيب كيف استخدم الإخوان أساليب في قمة الانتهازية وأبدوا مواقف غاية في الرجعية خلال تنافسهم السياسي مع الطلاب الشيوعيين. ففي انتخابات كلية العلوم، كانت القائمة الانتخابية لطلاب اليسار تضم ثلاثة فتيات، منهن واحدة للرئاسة وهي "فاطمة زكي". حينها لم يتردد المرشح المنافس من الإخوان في رفع شعار "لا تنتخبوا امرأة"! وحين بدأ فرز الأصوات وبدا أن الفوز سيكون من نصيب الشيوعيين، حاول طلاب الإخوان تحطيم صناديق الانتخاب، لولا أن أوقفهم الطلاب الناخبين. وانتهي فرز الأصوات بفوز مرشحي اليسار وفوز طالب واحد فقط من الإخوان.
ويروي لبيب موقفا آخر يعكس انتهازية الإخوان، بل وخيانتهم للحركة الطلابية آنذاك. فعندما أراد "إسماعيل صدقي"، عدو الحركة الوطنية، ضرب اللجنة العليا للطلاب والعمال، لم يجد حليفا خير من الإخوان الذين صاروا أصدقاء له وللسراي. وفي زيارة لإسماعيل صدقي للتحدث مع الطلبة في الجامعة، رحب به الطالب الإخواني "مصطفي مؤمن" قائلا"! "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا
وبعيدا عن الصراعات بين القوى السياسية المختلفة أيديولوجيا، يسلط الكاتب الضوء علي صراعات من نوع آخر: الصراعات بين وداخل التنظيمات الشيوعية، وهي الصراعات التي كانت تفضي إلي انقسامات عديدة في الحركة الشيوعية. فلقد كان الشيوعيون منقسمين إلى أكثر من ستة تنظيمات تتبادل فيما بينها الاتهامات القاسية والشتائم أحيانا: فهذا عميل وذاك يميني والآخر فاشستي.. الخ.
كما كانت تلك التنظيمات، أو علي الأقل أغلبها، تتناقل أفكار وتكتيكات الاتحاد السوفيتي بلا فهم ولا محاولة لتوفيقها مع الواقع المصري، بل وكانوا يتناولون النصوص النظرية كأنها نصوصا مقدسة مما يقلص هامش النقاش حولها وبالتالي يقلل فرص تطويرها.
يتجلى ذلك في مشهد يرويه لنا لبيب عندما حضر أول اجتماع تنظيمي. فبعد أن فرغ من يدير الجلسة من شرح بعض فقرات كتاب "أسس اللينينية" لستالين (بغض النظر عن كون هذا الكتاب يمثل أحد التلفيقات الهامة لستالين في النظرية الماركسية اللينينة)، تم فتح النقاش وإتاحة الفرصة لإضافة التعليقات. حينها رد أحد الرفاق الحاضرين: "إحنا هنعلق علي لينين ولا إيه.. هي الدنيا حصل فيها إيه؟!" في نفس السياق يتذكر د. لبيب أنه قد تلقي إتهاما بالانتهازية الصفراء عندما حاول ترجمة كتابات ماو تسي تونج
وبخلاف السلفية الماركسية في فهم النصوص وتطبيقها، اتسمت التنظيمات اليسارية المصرية بمركزية مطلقة في اتخاذ القرارات، إلي درجة أنه يمكن وصفها بالديكتاتورية. فلم تكن هناك فرصة للأعضاء لإبداء آرائهم في سياسات تنظيماتهم. فعندما اقترح لبيب أن يتم عقد اجتماع موسع (كونفرانس) للأعضاء اتهموه بالليبرالية!
وكذلك كان مصير أي معارض لقيادة تنظيمه: الاتهام والتشويه وربما الطرد. يحكي لنا فخري لبيب أنه عندما كان عضوا في المنظمة الشيوعية المصرية (ش.م.م)، وهو التنظيم الذي كان يضم الكثير من الأجانب وصاحب توجه "100% عمال"، شكا أحد العمال المنتمين للتنظيم من أن الزملاء الأجانب عندما يزورونه يثيرون الريبة لدى جيرانه، عندها اتهمه التنظيم بالشوفينية وافتقاد الروح الأممية!. وعندما اعترض لبيب علي توجه 100% عمال تم اتهامه بالفكر البرجوازي الرجعي المتخفي تحت عفريتة العمال. وكان "خطأه الأكبر" عندما انتقد زميلتين من القيادة، فكان جزاؤه هو الطرد علي الفور بتهمة البوليسية
كتاب "المشوار" لفخري لبيب ليس مجرد سيرة ذاتية، بل أيضا سرد تاريخي من واقع التجربة الشخصية للكاتب وانخراطه في الكثير من معارك تلك الحقبة التي كانت مليئة بالبطولات الكبرى، ولكن كذلك بالأخطاء الكارثية، تلك الأخطاء التي أفضت إلي العديد من الانقسامات داخل الحركة الشيوعية. ويمكننا أن نشعر بمرارة تلك الانقسامات خلال صفحات الكتاب. فكما يقول لبيب: "كنت أشعر أننا نؤذي بعضنا البعض بشدة. نتحدى أنفسنا والأجدر بنا أن نتحدى ما حولنا".

2 comments:

بسبوسة said...

انا قريت موضوعك عن الكتاب فى المجلة
بجد اسلوبك مميز وبيختلف كل مرة
**بس ابقى اسال علينا مرة**

مصطفى محمود said...

شكرا يا كيكى ...خطوة عزيزة والله