صوت التيار الاشتراكى الثورى فى مصر
الاصدار أوراق اشتراكيةالعدد 19تاريخ النشر 1 أبريل 2008
"المسألة لم تعد مقتصرة على قلق المستثمرين من عدم كفاية السيولة المالية لدى بعض البنوك. القلق الآن أصبح متعلقا بخطر الكساد الأمريكي أو حتى العالمي." هكذا لخصت الفاينانشيال تايمز مخاوف الرأسماليين في 18 يناير الماضي. فالمعلقين الاقتصاديين المنتمين للتيار الفكري السائد متفقون الآن على شيء واحد: أن الأزمة التي بدأت في قطاع واحد من النظام المالي في الصيف الماضي، قد تكون على أبواب التحول إلى فوضى في جزء كبير من النظام الرأسمالي الذي يدعمونه.وهكذا، فإن وزير الخزانة الأمريكي السابق لورانس سامرز يؤكد أن الولايات المتحدة ربما تكون بالفعل قد بدأت الدخول في ركود. أما آلان جرينسبان، المحافظ السابق للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، فهو يرى أن احتمال حدوث ركود في الولايات المتحدة يصل إلى 50%. وأخيرا، فإن أحد تقارير الأمم المتحدة يحذر من "خطر واضح وحالي" أن يكون الاقتصاد العالمي متجها ناحية مرحلة ركود خلال العام الحالي.وعلى الجانب الآخر، فإن خليفة جرينسبان في الاحتياطي الفيدرالي، بن برنانكه، يحاول أن يرسم صورة أكثر بريقا بعض الشيء. فهو يتوقع نموا أبطأ هذا العام، ولكن بلا ركود. المفترض أن برنانكه خبير في الأزمات الاقتصادية. حيث أنه كتب رسائل أكاديمية حول دور النقود في الكساد الكبير في الثلاثينات. ولكنه، برغم ذلك، فشل تماما في الصيف الماضي في أن يتوقع أن الأزمة كانت على وشك أن تضرب النظام المالي. إذن فلا ينبغي أن تحوز توقعاته على ثقة كبيرة من جانبنا، وكذلك لا ينبغي أن نثق في توقعات غيره من الاقتصاديين المؤيدين للرأسمالية من التيار السائد. فإيمانهم الأعمى بالرأسمالية كماكينة لضخ الأموال للباحثين عن الربح، معناه أنهم يعتقدون دائما أن الأمور تسير على أحسن حال، إلى حين يأتي الوقت الذي يكتشفون فيه، فجأة، أنهم مخطئون! وعلى كل الأحوال، فإن برنانكه كان قلقا بما فيه الكفاية للحد الذي دفعه إلى تخفيض معدل الفائدة. وكذلك فإن جورج بوش يضغط على الكونجرس للموافقة على برنامج طوارئ لتخفيض الضرائب. يبدو أن لديهم أملا خافتا أن مثل تلك الإجراءات يمكنها أن تمنع تحول التباطؤ الاقتصادي إلى كساد.ولكن بغض النظر عن هذا كله، فإن شيئا واحدا أصبح واضحا بجلاء: التفاؤل المتطرف بشأن حالة الاقتصاد العالمي الذي وسم معظم تعليقات الاقتصاديين التقليديين منذ عام واحد فقط، انكشف أنه خطأ تماما. أحد الأمثلة النموذجية على هذا التفاؤل غير المبرر كان تقرير لصندوق النقد الدولي، رأى أن "الاقتصاد العالمي يظل مهيئا بشكل جيد لمواصلة النمو الكبير في 2007 و2008".وفي الجانب البريطاني، فإن جوردون براون رئيس الوزراء، وأليستير دارلنج وزير الخزانة، وميرفين كينج محافظ بنك إنجلترا، كانوا جميعا مسحورين بأعاجيب السوق الحر إلى الحد الذي جعلهم يقللون من أهمية خطورة التطورات التي تلت انفجار الأزمة في منتصف أغسطس الماضي. فكينج رفض مطالب أصدقائه في دوائر الأموال والبورصة في لندن بتخفيض معدلات الفائدة. كذلك اعتقد براون ودارلنج أن المطلوب منهم هو فقط تقديم الوعود اللفظية بالدعم لشركة "نورثرن روك" لتُحل مشاكلها أوتوماتيكيا. وفيما يبدو، فإنهما لم يتصورا أبدا أن الأمر، في نهايته، يتعلق بعشرات البلايين من الجنيهات من أموال دافعي الضرائب. وقد بدا كلاهما في مواجهة الأزمة، وكأنهما قباطنة يحاولون الملاحة بسفينة، بدون خريطة أو بوصلة أو عجلة تحكم! لقد وضع هؤلاء إيمانهم في الاقتصاد النيو كلاسيكي الأرثوذكسي الذي يدرّس في المدارس والجامعات، والذي يهدف إلى إثبات تفوق الرأسمالية على أي بديل آخر ممكن. ولكن هذا النوع من "العلم" الاقتصادي لم يكن أبدا قادر على شرح السبب في ميل النظام الرأسمالي إلى الدخول في أزمات.يعتمد النظام الرأسمالي على التفاعل غير المخطط بين آلاف الشركات متعددة الجنسيات ومجموعة من الحكومات الكبرى. إنه يشبه تماما نظاما للمرور يفتقر إلى تحديد حارات السير، أو علامات الطرق، أو إشارات المرور وحدود للسرعة، أو حتى إلى قاعدة واضحة تفرض على الجميع أن يقودوا سياراتهم في الجانب الصحيح من الطريق. نظام بهذه المواصفات بالقطع سوف يجعل من الصعوبة بمكان، بالنسبة لأولئك الذين يدعوُن القدرة على الإشراف عليه، لعب دور لمنع تحول الانهيار البادي في القطاع المالي إلى ظاهرة عامة أكثر خطورة بكثير في الشهور القليلة القادمة. وفي الأغلب فإن أن أي نجاح سيحققونه سيكون مؤقتا يؤجل، في أحسن الأحوال، لحظة الحساب بضع سنوات قليلة.حتى نفهم السبب في هذا، من الضروري أن ننظر إلى المصدر الذي أتت منه الأزمة. الجميع الآن متفقون أن السبب المباشر هو الأزمة الناشبة في نظام الإقراض العقاري للمستهلكين في الولايات المتحدة. فلأن الممولين كانوا حريصين على مراكمة أرباح سهلة، فقد بدأوا في إقراض الأموال إلى أشخاص كان ينظر إليهم في السابق على أنهم عملاء مرفوضين لرداءة موقفهم الائتماني، إما لأنهم فقراء، أو لأن ليست لديهم وظائف آمنة، أو لأنهم لم فشلوا في رد ديون سابقة. فقد كانت أسعار المنازل ترتفع، والافتراض كان أنه إذا لم يستطع هؤلاء العملاء الوفاء بديونهم العقارية، من الممكن الاستحواذ على المنازل وإعادة بيعها بربح كبير. ولكن المفارقة أن هذا النوع من الإقراض الواسع، كان هو نفسه السبب في ارتفاع أسعار المنازل، الذي اعتقد الممولون أنه سيسمح لهم بإعادة بيع المنازل في حالة عدم وفاء المقترضين بديونهم!أضف إلى هذا أن الممولين المقرِضين في سوق العقارات لم يحصلوا على أموال الإقراض من جيوبهم الشخصية. لقد توجهوا إلى آخرين ليقترضوا منهم، وهؤلاء الآخرون كانوا بدورهم يذهبون إلى آخرين للاقتراض، وهكذا. وفي كل مرحلة، كانت فروق صغيرة في سعر الفائدة، في عدد هائل من العمليات المالية، متضمنة كميات هائلة من الأموال، تعني، كما هو ظاهر، أرباحا كبيرة بلا مجهود. كل البنوك تقريبا على جانبي الأطلنطي دخلت في هذه اللعبة، وتم تأسيس إدارات خاصة هدفها هو الاقتراض من أجل الإقراض، ثم تم جمع كل الأنواع المتباينة من القروض مع بعضها البعض فيما تمت تسميته بـ"الأدوات المالية". ولبعض الوقت بدا كل شيء كما لو أنه يسير جيدا. كان كل المشتركين في هذه العملية يهنئون بعضهم البعض على حنكتهم المالية وعبقريتهم التنظيمية. وقبل عام واحد فقط من الآن، كانت شركة "نورثرن روك" هي حديث رجال المال اللندنيين في عشاء براق، حيث تم إغراقها بالثناء بسبب مهاراتها في الابتكار المالي. كل هذا كان يحدث بموافقة حارة من سياسيين كجوردون براون. أول إشارة أن الأمور ليست على ما يرام كانت منذ 18 شهرا. فقد تباطأ النمو الاقتصادي الأمريكي، مسببا زيادة حادة في عدد المدينين العقاريين غير القادرين على دفع أسعار الفائدة التي كانت اللعبة كلها تعتمد عليها، وتزايد عدد المنازل التي تم الاستحواذ عليها وسحبها من مشتريها. ولكن، برغم ذلك، كان الهم الأول لأولئك المنخرطين في تجارة "الأدوات المالية" هو الاستمرار في الحصول على أرباح، بغض النظر عن المشاكل التي يعانيها الأمريكيون الفقراء. ثم عندما انخفضت أسعار المنازل، اكتشف المقرضون أنهم غير قادرين على إعادة بيع نسبة كافية من المليون منزل الذين تم الاستحواذ عليهم، ليدفعوا ما كانوا هم أنفسهم قد اقترضوه. أما البنوك، التي كانت قبل ذلك مقبلة بقوة على إقراضهم الأموال، فقد اكتشفت فجأة هي الأخرى أن هؤلاء المقرضون يواجهون خسائر بعشرات البلايين من الدولارات. أما الأمر الذي جعل الموقف أسوأ، فقد كان أن أحدا لم يعلم بالضبط إلى أي مدى كان حجم المشاكل التي يعانيها أي بنك محدد، وذلك لأن "الأدوات المالية" كانت شديدة التعقيد، ولا يمكن بسهولة كشف المشكلة من خلال تحليلها. هنا بدأت المؤسسات المالية بطول وعرض النظام الرأسمالي تخاف من إقراض بعضها البعض، حتى لا تكتشف أنها غير قادرة على استرجاع أموالها. وهكذا نشأت "أزمة الائتمان".الرأسمالية الحديثة تعتمد في نشاطها اليومي على الاقتراض والإقراض. كل مشروع يتوقع أن في مقدوره أن يشتري أشياء معينة بالأجل، مؤجلا الدفع النقدي إلى حين بيعه لما ينتجه من سلع. الأزمة الائتمانية يمكن مقارنتها بالأزمة القلبية. فهي إذا لم تعالج، تؤدي إلى هلاك النظام بأكمله. لهذا السبب فإن الحكومات، التي تقوم فلسفتها بأكملها على عدم فعل أي شيء للتدخل في السوق الحر، اندفعت للتدخل في الأسواق، وضخت بلايين الدولارات في أيادي القطاع الخاص، على أمل أن يستخدم هؤلاء النقد الذي في أيديهم لتنشيط الإقراض والاقتراض مرة أخرى.هناك كثير من المعلقين يرون أن القصة تنتهي هنا. وعادة ما يكون الدرس الوحيد الذي يستنتجونه هو الحاجة إلى التنظيم المالي. وهنا يُختزل مجمل النقاش بصدد ما حدث، إلى مناقشة حول أي درجة من التنظيم يحتاجها القطاع المالي!لكن هناك بعض المعلقين الذين نظروا أبعد قليلا من هذا. فأحد الذين كانوا قلقين بشدة بصدد اتجاه الأحداث كان مارتن وولف الصحفي بالفاينانشيال تايمز (ربما لأنه أساء التقدير كلية عندما بدأت الأزمة الآسيوية في تايلاند منذ عشرة سنوات، واصفا إياها بأنها مجرد مشكلة عابرة): "أنا أخشى الآن من أن المزيج بين هشاشة النظام المالي، والعوائد الهائلة التي يولدها لمن هم بداخله، سوف يقوم بتدمير شيئا حتى أكثر أهمية – أقصد الشرعية السياسية لاقتصاد السوق نفسه"، هكذا كتب وولف مؤخرا.المعلقون من أمثال وولف يشيرون إلى أن النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة منذ الكساد الأخير، أي منذ سبع سنوات، كان ممولا إلى حد كبير بالديون المتزايدة: الديون على المستهلكين وعلى الحكومة الأمريكية. كثير من السلع المنتجة بواسطة الشركات الأمريكية لا يمكن بيعها بدون هذه الاستدانة. ولذا فإذا جفت هذه الأموال فإن الكساد يصبح حتميا. ولكن ليست الشركات الأمريكية فقط هي التي ستتأثر. فإذا كانت الولايات المتحدة هي أحد محركيّ التوسع الاقتصادي العالمي، فإن الصين هي المحرك الآخر. وبالنسبة للصين، فإن المصدر الرئيسي لنموها هو صادراتها بمئات البلايين من الدولارات سنويا للولايات المتحدة.وحتى يزيد الأمر تعقيدا، فإن كثير من الإقراض الذي مكّن المستهلكين الأمريكيين من الاقتراض لشراء السلع الصينية يأتي من الصين نفسها. فما يحدث عمليا هو أن أرباح الصين من بيع السلع إلى الولايات المتحدة تعبر المحيط الأطلنطي مرة أخرى ليتم استخدامها في الولايات المتحدة لشراء هذه السلع! المستهلك الأمريكي، كما يصوغ وولف المسألة، هو "المشتري الأخير في الاقتصاد العالمي."أحد الدراسات المهمة التي أجريت تحت رعاية صندوق النقد الدولي منذ ثلاثة أعوام توضح كيف يحدث هذا. فحوالي 10% من المدخرات الصينية (وهو المصطلح المستخدم تقليديا للتعبير عن الأرباح) تتبقى بعد القيام بالاستثمارات الجديدة. نسبة كبيرة من هذا الفائض يتم ضخها كإقراض للاقتصاد الأمريكي. أما "المدخرات" الآتية من بلدان شرق آسيوية أخرى، ومن البلدان المنتجة للنفط، فهي تسلك نفس الطريق. حتى الصناعة الأمريكية "تدخر" أكثر مما تستثمر، وهي تقرض الفائض للبنوك التي تقوم بدورها بإقراض المستهلكين.تداعيات هائلةهذه العملية كانت لها تداعيات هائلة. فحتى يعمل اقتصاد رأسمالي ما بشكل سلس، لابد أن يتم شراء الثروة التي يتم إنتاجها في مختلف أنحاء النظام. عمال وفلاحو العالم لا يمكنهم شراء أكثر من جزء من هذه الثروة، وذلك لأن مستويات معيشتهم لها سقف محدود تفرضه الرأسمالية بسعيها للاقتطاع من دخولهم لزيادة أرباحها. هذا معناه أن الباقي لابد أن يتم استهلاكه بواسطة الرأسماليين، إما كاستهلاك شخصي لهم، أو كإنفاق للدولة يرونه ضروريا لهم (كالجيوش والأسلحة، إلخ)، أو كاستثمار يهدف إلى إنتاج أرباح مستقبلية.أما إذا ما انخفضت الأرباح عن مستوى الادخار، فإن فجوة تتكون بين ما تم إنتاجه وما يتم شراؤه، أي يحدث فائض إنتاج. فبعض المؤسسات لا تستطيع بيع كل منتجاتها، وتبدأ في فصل العمال حتى تضبط ميزانياتها. وهذا يؤدي بدوره إلى تخفيض حجم القوة الشرائية، وهو ما يؤدي إلى الكساد.لم يحدث هذا على مدى السنوات الخمسة الماضية لأن إقراض المستهلكين الأمريكيين خلق أسواقا إضافية وامتص الإنتاج الفائض. لكن ما تفعله الأزمة المالية الحالية هو أنها توقف هذه العملية. فبناء المنازل ومبيعات السيارات في الولايات المتحدة فعلا قد تأثرا سلبا بشدة. وحتى لو استعادت البنوك الثقة في إقراض بعضها البعض، فإنها لن تعود سريعا إلى إقراض المستهلكين بدون توفر ضمانات ائتمانية قوية. وهذا هو السبب في أن احتمالات الكساد كبيرة جدا، وفي أن الكساد سيكون له أثر خارج الولايات المتحدة.لكن القصة التي يحكيها مارتن وولف والآخرين ليست، في الحقيقة، كاملة. فهم لا يستطيعون أن يشرحوا لماذا أصبح الاقتصاد العالمي معتمدا على المستهلك الأمريكي. وللإجابة على هذا السؤال لابد من النظر إلى مستوى أعمق مما ينظر إليه من يعتمدون على النظريات الاقتصادية السائدة. هذا المستوى الأعمق يتعلق بالمرض الذي يعاني منه الاقتصاد العالمي منذ السبعينات.ما يدفع الرأسماليين إلى الاستثمار ليس فقط المستوى المطلق للأرباح التي يجنونها، ولكن "معدل الربح" – أي نسبة الأرباح إلى الاستثمار. هذا المعدل ظل ثابتا إلى حد كبير طوال سنوات الأربعينات والخمسينات والستينات. وهذا هو السبب في أن تلك السنوات شهدت استثمارا متزايدا وانتعاشا مستمرا، إلى حد أنه أحيانا ما توصف تلك الفترة بأنها "العصر الذهبي للرأسمالية". ولكن منذ أواخر الستينات وحتى 1982 هبطت معدلات الأرباح، حتى وصلت إلى حوالي نصف متوسط مستواها في العقدين السابقين. وقد كان الكسادين الاقتصاديين العميقين في منتصف السبعينات وأوائل الثمانينات من نتائج هذا الهبوط.عادة ما يلقي الاقتصاديون التقليديون باللوم على ارتفاعات أسعار النفط لتفسير هذين الكسادين. ولكن هذا الارتفاعات كان من الممكن امتصاصها بسهولة بواسطة النظام الرأسمالي، إذا لم تكن معدلات الأرباح قد انخفضت بشدة في هذه المرحلة.المهم، استطاعت معدلات الأرباح أن تستعيد نفسها جزئيا في منتصف الثمانينات ومنتصف التسعينات. أحد الأشياء التي مكنتها من ذلك، كان زيادة عائد الأرباح بالمقارنة بعائد العمل من إجمالي الدخل القومي. كان معنى هذا في كل مكان ضغطا إضافيا على الناس أن يعملوا أكثر، وهجوما على الخدمات التي تقدمها دولة الرفاهة (أي على "الأجر الاجتماعي"). وفي الولايات المتحدة عنى هذا أيضا هبوطا في الأجر الحقيقي على مدى السنوات من مطلع السبعينات وحتى أواخر التسعينات، وزيادة هائلة في عدد ساعات العمل. وفي أوروبا، صحيح أنه لم يحدث مثل هذا الهبوط في الأجور الحقيقية، ولكن بريطانيا شهدت زيادة في عدد ساعات العمل (خاصة إذا ما تم حساب وقت العمل الإضافي غير مدفوع الأجر الذي يُفرض فرضا على كثير من العمال ذوي الياقات البيضاء)، وهناك ضغط الآن على الدول الأوروبية الكبرى لكي تتبع نفس الطريق.وبالموازاة مع ذلك، سمح إفلاس بعض كبار الرأسماليين لرأسماليين آخرين أن يكسبوا على حساب الأولين. فروبرت مردوخ كسب على حساب انهيار إمبراطورية روبرت ماكسويل الإعلامية، وكذلك فإن موجة من الإفلاسات في صناعة الطيران ساعدت الناجين مثل الخطوط الجوية البريطانية، وهكذا.ولكن معدلات الأرباح لم تستعد أكثر من نصف ما خسرته سابقا، وكذلك كانت مراحل الانتعاش تتحول فجأة إلى أوضاع أزموية، مثلما حدث في أزمة الأسواق المالية في أكتوبر 1987 وفي الأزمة الآسيوية في 1997. في كلتا الحالتين كان رد فعل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وبنك إنجلترا هو تخفيض معدلات الفائدة وتشجيع الإقراض. نجحت هذه الإجراءات في إطالة عمر الانتعاش، وهو ما دفع المعلقين الإعلاميين في كلتا المرتين إلى التهليل بأن الرأسمالية دخلت عصرا جديدا من النمو اللانهائي، ولكن الكل كان يكتشف أن ما يحدث هو فقط تأجيل الركود لبعض الأعوام، وليس إلغاؤه إلى الأبد. ركود 2000-2001 بالذات كان مصدر تهديد كبير للاقتصاد الأمريكي. فالشركات الضخمة مثل جنرال موتورز كانت بالفعل تحقق خسائر قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ثم أتت الهجمات فأصابت مجالس إدارات الشركات بالرعب. فاندفعت الحكومة الأمريكية لتخفيض الضرائب على الأغنياء ولزيادة الإنفاق على التسلح، في حين خفّض الاحتياطي الفيدرالي معدلات الفائدة أكثر حتى يشجع مستويات أعلى من الاقتراض. نجحت هذه الإجراءات في شدّ الاقتصاد خارج دائرة الكساد – بل أن بعض الاقتصاديين التقليديين أدعوا أنه لم يكن هناك كساد من الأصل. لكنه في المقابل وضع الأساس للمشاكل التي يعانها النظام الآن. فلبعض الوقت، كانت الشركات قادرة على تحسين معدلات أرباحها بإجراء تخفيضات هائلة في أعداد عمالتها، وصلت مثلا إلى 2,7 مليون عامل صناعي (واحد من كل ستة) فقدوا أعمالهم في الولايات المتحدة. أما الأجور الحقيقية، التي زادت لأول مرة منذ ربع قرن في نهاية التسعينات، فقد بدأت في الانخفاض مجددا. ولكن حتى بالرغم من ذلك فإن الحسابات التي أجراها الاقتصادي الماركسي روبرت برينر تشير أن نقطة الذروة بالنسبة لمعدلات الأرباح في 2005 كانت فقط تقريبا في نفس مستوى الأرباح عشية كل أزمة سابقة منذ منتصف السبعينات. وفي 2006 أعلنت أكبر شركة في الولايات المتحدة، وول مارت، عن انخفاض أرباحها، بينما أعلنت كل من جنرال موتورز وفورد خسائر قياسية. في هذه اللحظة بالتحديد ضرب التباطؤ الاقتصادي الفقراء، وقلل من قدرتهم على دفع ديونهم العقارية.وفي المقابل كان الارتفاع في معدلات الأرباح غير كاف لرفع الاستثمار إلى معدله الأسبق – حسابات برينر تقول أن معدل نمو الاستثمار كان الأقل مقارنة بكل الانتعاشات الاقتصادية منذ نصف قرن. في حين أن ارتفاع الأرباح قلص من دخل العمال، وبالتالي من قدرتهم على شراء السلع الاستهلاكية التي ينتجها الاقتصاد. هذا هو السبب في مركزية الاقتراض الشخصي، الذي زاد إلى معدل قياسي قدره 9% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. إذ لم يكن هناك طريق آخر يمكن من خلاله بيع كل السلع التي تنتجها الرأسمالية.وهذه ليست فقط مشكلة تخص الولايات المتحدة. فإذا كان بعض الناس يشيرون إلى المعدل الهائل للتوسع في الاقتصاد الصيني، ويلمحون إلى أن هذا يمكنه أن ينقذ النظام عالميا، إلا أن هذا التوسع يعتمد بدرجة كبيرة على بيع السلع للولايات المتحدة. لذلك فإذا ما دخل الاقتصاد الأمريكي في أزمة، فسيواجه الاقتصاد الصيني أزمة هو الآخر.وفي مواجهة الأزمة، كانت استجابة الحكومات الرأسمالية وبنوكها المركزية هي اختراع مناورة يائسة للحفاظ على استمرارية الاقتراض الاستهلاكي. أحد الطرق للقيام بهذا كانت تخفيض معدلات الفائدة إلى درجة إعطاء النقود للبنوك حتى تقرض الأشخاص بدون مقابل. قارن مارتن وولف هذا بإسقاط النقود من طائرات الهليوكوبتر. طريق آخر كان زيادة الاقتراض الحكومي. وهذا ما يطرحه بوش في خطته لتخفيض الضرائب. ولكن الدول ستواجه مشكلة إذا ما قامت ببساطة بطبع البنكنوت لتخفيض معدلات الفائدة أو لتغطية تكلفة تخفيض الضرائب. مثل هذه الطرق يمكنها أحيانا إعطاء دفعة قصيرة الأجل لاقتصاد متراجع. ولكنها بالضرورة علاجات قصيرة الأجل، حيث أنها لا تعالج المشكلة الجوهرية الخاصة بكيفية رفع الأرباح لتحفيز الاستثمار، بدون اللجوء إلى تقليص الأجور بالشكل الذي يؤثر سلبا على سوق السلع الاستهلاكية. فمثلا كانت الدولة اليابانية قد قامت بتخفيض معدلات الفائدة إلى صفر تقريبا طوال سنوات التسعينات، ولكنها ظلت رغم ذلك غير قادرة على دفع الاقتصاد للعودة للنشاط على المستوى السابق.من ناحية أخرى، تخشى الحكومات في الولايات المتحدة وأوروبا أن مثل تلك الإجراءات سوف تزيد الأسعار (بالإضافة إلى الزيادات الكبيرة الحادثة في أسعار النفط والغذاء) بدون أن توقف التباطؤ الاقتصادي، مما قد ينتج مزيجا من الكساد والتضخم كان قد عرف في أواخر السبعينات بـ"الكساد التضخمي". وفي الولايات المتحدة فإن هذه المخاوف تتعمق بسبب الطريقة التي يؤدي بها المزيج بين الأزمة المالية ومعدلات الفائدة المنخفضة، إلى تدهور سريع في القيمة الدولية للدولار. هذا سوف يزيد الأسعار المحلية في الولايات المتحدة، وكذلك سوف يضعف القوة الاقتصادية العالمية للطبقة الحاكمة الأمريكية.ولكن، برغم ذلك، فإن مثل تلك الإجراءات يمكنها أن تؤجل الأزمة، كما نجحت إجراءات شبيهة في ذلك في نهاية الثمانينات والتسعينات، ولكنها لن تكون قادرة أن تفعل أكثر من ذلك.